La VI edizione in arabo

 SESTA EDIZIONE IN LINGUA ARABA

Se vuoi vedere l’appartamento di Gerusalemme, clicca sul canale you tube di Santina, dal titolo LA SPERANZA NON DELUDE:

http://www.youtube.com/watch?v=4p0Y6MZTK24&feature=channel_page

لنبدأ بتلاوة نشيد مريم: في كتاب الخروج 15

حينئذ رنم موسى وبنو اسرائيل هذه التسبيحة للرب وقالوا . ارنم للرب فانه قد تعظم . الفرس وراكبه طرحهما في البحر .

الرب قوّتي ونشيدي . وقد صار خلاصي . هذا الهي فامجّده . اله ابي فارفعه .

الرب رجل الحرب . الرب اسمه .

مركبات فرعون وجيشه القاها في البحر . فغرق افضل جنوده المركبيّة في بحر سوف .

تغطيهم اللجج . قد هبطوا في الاعماق كحجر .

يمينك يا رب معتزّة بالقدرة . يمينك يا رب تحطم العدو .

وبكثرة عظمتك تهدم مقاوميك . ترسل سخطك فياكلهم كالقش .

وبريح انفك تراكمت المياه . انتصبت المجاري كرابية . تجمّدت اللجج في قلب البحر .

قال العدو اتبع ادرك اقسم غنيمة . تمتلئ منهم نفسي . اجردّ سيفي . تفنيهم يدي .

نفخت بريحك فغطاهم البحر . غاصوا كالرصاص في مياه غامرة .

من مثلك بين الآلهة يا رب . من مثلك معتزّا في القداسة . مخوفا بالتسابيح . صانعا عجائب .

تمد يمينك فتبتلعهم الارض .

ترشد برأفتك الشعب الذي فديته تهديه بقوتك الى مسكن قدسك .

يسمع الشعوب فيرتعدون . تاخذ الرعدة سكان فلسطين .

حينئذ يندهش امراء ادوم . اقوياء موآب تأخذهم الرجفة . يذوب جميع سكان كنعان .

تقع عليهم الهيبة والرّعب . بعظمة ذراعك يصمتون كالحجر . حتى يعبر شعبك يا رب . حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته .

تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك المكان الذي صنعته يا رب لسكنك . المقدس الذي هيّأته يداك يا رب .

الرب يملك الى الدهر والابد .

فان خيل فرعون دخلت بمركباته وفرسانه الى البحر . وردّ الرب عليهم ماء البحر . واما بنو اسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر .

فاخذت مريم النبية اخت هرون الدف بيدها . وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص .

واجابتهم مريم رنموا للرب فانه قد تعظم . الفرس وراكبه طرحهما في البحر .

ثم ارتحل موسى باسرائيل من بحر سوف وخرجوا الى برية شور . فساروا ثلاثة ايام في البرية ولم يجدوا ماء .

فجاءوا الى مارّة . ولم يقدروا ان يشربوا ماء من مارّة لانه مرّ . لذلك دعي اسمها مارّة .

فتذمر الشعب على موسى قائلين ماذا نشرب .

فصرخ الى الرب . فاراه الرب شجرة فطرحها في الماء فصار الماء عذبا . هناك وضع له فريضة وحكما وهناك امتحنه .

فقال ان كنت تسمع لصوت الرب الهك وتصنع الحق في عينيه وتصغي الى وصاياه وتحفظ جميع فرائضه فمرضا ما مما وضعته على المصريين لا اضع عليك فاني انا الرب شافيك

ثم جاءوا الى ايليم وهناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة . فنزلوا هناك عند الماء .

 

 

الصورة الانسانية والروحانية للأم سانتينا

كما قرأنا في المقدمة من الصحيح أن: ” القدس هي مدينة الصخور المقدسة، صخرة الجلجلة التي تحطمت عندما انتهت حياة السيد المسيح على الأرض، صخرة المسجد التي صعد منها محمد الى الجنّة. الناس من خلال العمى الذي أصابهم، غالباً ما نسيوا الرسالة الروحية العميقة لتلك الصخور معلنين فقط تملّكها أو الهيمنة عليها. لهذا السبب آمنوا أن النجاح والمال والنفوذ يمكن أن تكون الصخرة التي يتمسكون بها في حياتهم. تاريخ القدس، الذي ينعكس بإبتسامة سانتينا الحلوة، يخبرنا أن قوة الانسان الحقيقية تكمن في روحه، في سعيه لحياة تستمر ما بعد التجربة الأرضية ( رلى جبرايل، المقدمة). الجمعة العظيمة 2005. ها أنا في القدس لأمارس طقوس أسبوع الآلآم في أماكن عذاب وموت وقيامة المسيح. من النافذة يمكن أن أرى المدينة المقدسة تحت الشمس الساطعة والمسجد عمر متبهجاً بالذهب. كانت والدتي معي. أراها وهي منحنية على مسودة آخر كتاب لي “الثناء للضعف” (Praise of Weakness) تصححها في غرفة الفندق محل إقامتنا في مركز نوتردام. نحن هنا لقضاء بعض اللحظات من الاسترخاء والتواصل، من التأمل والتحدث عن حياتنا: حياتها البسيط في بلدة برغامو (Bergamo) القديمة، وحياتي النشطة بعض الأحيان والمليئة بالانشغالات العديدة في مدينة روما البعيدة والفوضوية. هذه اللحظات ثمينة بالنسبة إلينا. أمي سانتينا وأنا نثمّن كل لحظة سوياً. نظرة، إبتسامة، وبعض الاحيان القليل من الشجار كافية لكشف قلوبنا لبعضنا البعض. نحن بحاجة الى هذه اللحظات لتحصين أنفسنا، لإسترداد ما نملك من قوة لمواصلة رحلتنا الى الرب.

         الربيع في إزدهار كامل. فجأة أرى أمي تحدّق في الطيرين الصغيرين وهما يأكلان كسرات الخبز التي وضعتها على حافة النافذة: “أب جيجي، أنظر كم هما جميلان! انهما مخلوقان بسيطان مطيعان للرب… نحن هنا في القدس لنصلي خلال هذه الايام المقدسة! وأنا أقرأ صفحة المسودة من آخر عملك. غريب كيف هذا هو أسبوع الآلآم، ولكن اليوم هو 25 من شهر آذار، عيد البشارة. في كتابك نتكلم عن إمرأة أخرى بسيطة جداً تدعى Annalena Tonelli. أنا معجب بهذه المرأة وأحب كثيراً ملاحظتها هذه في السمع!”.

         تقوم أمي وتجلس قرب النافذة التي من خلالها يمكننا رؤية الجدران القديمة للقدس، وتبدأ بقراءة الصفحة التي كانت قد صححتها في كتابي: “دعونا نتذكر ان للانسان قيود. وهو تماماً محتاج الى تدخل الله الفعّال والمجاني. الضوء ليس من هذا العالم، اي انه جاء الى هذا العالم. ولكن من فوق. “… من الذي سيحرر جسدي المحكوم عليه بالموت؟… “… عندما أكون ضعيفاً، عندئذ أكون قوياً. هذا هو المثال الذي تقدّمه المبشرة أنالي تونيللي التي كانت حقاً قادرة أن تعيش وفقاً لهذه الجملة، “انا لا احد، لا احد. بمعنى أنني لا انتمي الى اية منظمة دينية. انا متدينة في القلب. ولكن لم يسبق لي ان انتميت الى جماعة من المصلين. عندما كنت طفلاً كنت أريد أن اكون فقيراً، اردت ان اكون للله فقط. حقاً اردت ان اكون لا احد، دون اية سلطة ودون اية حماية. اريد ان ابقى هكذا، هذا هو معنى حياتي”.

تخلع امي نظاراتها وتنظر الى الطيور التي تنقر بكسرات الخبز دون توقف، ثم تنظر في عيني وتقول: المريم العذراء وهذه المرأة عظيمتان في ضعفهما! انا اتفق مع Annalena وربما لقد عشت بنفس الطريقة حتى الآن. انا لا احد، انا اعيش حياتي وحيداً في البيت وفي الصمت، مثل  Annalena: “انا اعيش كأنني لا احد، دون احد. دون اية سلطة، دون اية حماية. اريد ان ابقى هكذا. هذا هو معنى حياتي”. اذهب الى امي واقبل جبهتها واداعب يدها واقول: “امي. انت تعرفين انني دائماً بجانبك من قلبي”. “بالطبع انا اعلم! ولكن يسوع والمريم العذراء هما دائماً الى جانبي، فأنا لست ابداً لوحدي. انهما لم يتركاني ابداً، بالتالي انا هادئ معهما!”.

         “لنكف عن القراءة ولنستعد للخروج. في صباح هذا اليوم وفي هذه الشوارع من القدس القديمة، سنعيش مجدداً درب الصليب. هذه المدينة القديمة مليئة بالحجّاج القادمين من اماكن بعيدة للاحتفال بعيد الفصح”.

” هذا صحيح، ابونا جيجي! كنت على وشك ان انسى. اليوم هو الجمعة العظيمة، ويجب علينا ان نشارك في درب الصليب”. الطيور ترفرف بعيداً بسرعة، ونسمة جديدة تأتي من النافذة المفتوحة، في حين نسمع المؤذن يدعو المسلمين لأداء صلاة الجمعة.

وبعد ساعة، بينما اسير في شوارع القدس الرائعة، اتذكر المقطع الذي اعدت لي امي في درب الصليب. انظر الى امي وهي تتنفس بصعوبة فوق المنحدر. هي تركز وعينيها المليئتين بالنور الداخلي. تبتسم لي وانا افكر بإستعارة نص تونيللي وهي تصف حياتها الداخلية جيداً: “اعيش مثل لا احد، دون اي احد. دون اية سلطة، دون اية حماية. اريد ان ابقى هكذا. هذا هو معنى حياتي”. من كان يظن ان اليوم المميز مليئ بالفرح والسلام تنذر بدرب صليب سانتينا المؤلم، والتي كانت ستعيش بعد بضعة أشهر- درب الصليب الذي اصفه في هذا الكتيّب؟

” كارولينا، هل تأخذني الى الكنيسة؟” ( الثلاثاء 30 آب 2005، الساعة 7.30 مساء). هذا اول مكان تطلب فيه امي من اختي ان تزورها متى تخرج للتجول اول مرة وهي لا تزال على الكرسي المتحرك وتحت العناية المركزة. “كارولينا، خذيني الى الكاتدرائية”. هذا طلبها الثاني وبصوت ضعيف بسبب القصبة الهوائية. في اليوم التالي ( الاربعاء 31 اغسطس 2005، 7 مساء) وهي نائمة في سريرها في العناية الفائقة، مع الأكسجين في انبوب القصبة الهوائية مرة اخرى، وذلك بسبب انتكاسة سببها انكفاء الصفراء. امي سانتينا تحاول ان تصعد بالقوة القليلة لديها. ” امي، اين تريدين ان تذهبي في هذا الوقت من اليوم؟”. ” يجب ان اذهب الى القداس”. ” ولكن الكنائس مغلقة الآن!”. ” ولكن يجب ان اذهب الى القداس”. “فلنصلي بالمسبحة اذاً. في نهاية زيارتها، كارولينا تركت امي والمسبحة في يدها، حتى لو أنها لم تعد لديها القوة لتحرك اصابعها على خرزات المسبحة لكن يمكنك ان ترى انها تعرفها تماماً.

اتمنى لو كان لدي ايمان امي سانتينا! ايمان جذوره قوية في داخل قلبها وهي قادرة على ان تعيش التجربة حتى في لاوعيها، حين عقلها لا يسمح لها باعادة ترتيب افكارها، وحيث المكان والزمان غير واضحة. في هذا الضباب الكثيف، امي كانت قادرة ان ترى الدليل الثابت في حياتها وهو ايمانها القوي. والذي لا يتزعزع وغير قابل للتدمير، والذي قد وجّه كل لحظة من حياتها. هذا كان الحال عندما توفي زوجها سنة 1963 حين قررت عدم الزواج مجددا وتربية اولادها بنفسها من خلال عملها الشاق. وهذا هو الحال عندما كانت تذهب الى الطابق السفلي في الساعة الخامسة صباحاً من كل يوم لتنظيف الأرض في بنك () وهي تغني اغاني للعذراء. كنت في الخامسة من عمري عندما نزلت الى مكاتب البنك وسمعت اغنيتها من بعيد … إسمكِ حلوة جداً .

بإيمانها العظيم كرستني الى الله حتى قبل ان اولد وعاشت اجمل يوم في حياتها: يوم سيامتي ككاهن. وبالايمان ذاته ذهبت الى عرس ماريا كارولينا وهي تعيش حياة هادئة منعزلة لسنوات عديدة، مسرورة بمجون أحفادها عندما يلعبون ومن خلال الزيارات التي اقوم بها نهاية الاسبوع.

وبواسطة ذلك الايمان العظيم ربت مارتينا ودانييلا وباولو الذين تعلموا صلواتهم منها ومنها كانوا يأخذون الحلويات يومياً قبل الذهاب الى المدرسة.

واخيراً بإيمانها العميق تمكنت ان تكرس وقتها للعمل الخيري وللبعثات ايام الاحد وشاركت في الاجتماعات الشهرية التي كانت تجمع اقارب رجال الدين. ومن خلال هذا الايمان نفسه كانت تذهب الى دير بنديكتين للقديس سانتا غراتا حيث اصبحت اختاً علمانياً تحت اسم سانتا-لويجانا!

في الايام الاولى “للصحوة” التدريجية، عندما كانت تستعيد الوعي، والوقت والمكان لا يزالان غير واضحتين وهي في العناية الفائقة، حيث الاضواء الاصطناعية والعلاج الطبي يعلقان الايقاع الطبيعي للنوم واليقظة ويوقفان مرور الايام والاسابيع، اعربت امي سانتينا عن رغبتها في الذهاب الى الكنيسة مرتين! لم تطلب من اختي ان تأخذها الى بيتها او مطبخها او غرفة نومها. بل فضّلت الكنيسة على بيتها، لدرجة اتساءل ما ترى منزل سانتينا الحقيقي. في منزلها امي تفضل ان تصلي قرب النافذة الصغيرة خيث تتمكن ان ترى بازيليك سانتا ماريا-ماجيوري وتتخيل حضور السيد المسيح في خيمة الاجتماع.

وذاك الصباح الذي كانت امي فيه ستخضع للعملية، شاركت في القداس مع عمي الاب لويجي، في جناح الجراحة القلبية في المستشفى وامي تلقت القربان. وخلال القداس قرأنا المقطع عن اخراج اليهود من العبودية في مصر ورتلنا ترنيمة النصر الرائعة للExodus– 15: “سوف اغني للرب، لأنه في غاية المجد. الحصان وفارسه تم دفعهما نحو البحر. الرب هو قوتي واغنيتي”. في عظتي القصيرة علقت كيف كانت امي على وشك عبور البحر الاحمر لتتحرر من مرض القلب البغيض: كان عبور البحر الاحمر صعباً. بالفعل، والبحر مليئ بالدم، كالدم المستخدم خلال العملية، والدم في العديد من الجروح كانت قد عانت منها. بالنسنبة لأمي، شواطىء هذا البحر الغدار كانت صلواتها. كانت تصلي قبل بدء العملية في 18 تموز/يوليو 2005، وصلّت عندما بدأ قدميها يلمسان الشاطئ في 30 أغسطس 2005. امي سانتينا لم تكن بعد على الارض الجافة، اذ كانت ستقضي اشهر طويلة من المعاناة، من اكثر المخاطر جدياً في ذلك الوقت: كان اكثر من خمسين يوماً التي خلالها خضعت المرأة للجراحة القلبية القاسية، فشل في القلب، غسيل الكلى، عملية اخرى، القصبة الهوائية، تغذية من خلال انبوب تُسمى PEG، العديد من الافرازات داخل الاوردة بالاضافة الى معاناة من تعفن الدم وقرحة.

بقيت امي في المستشفى لمدة تسعة اشهر طويلة من 8 تموز/يوليو 2005 الى 10 نيسان/ابريل 2006، بعد ان ظلت 109 يوماً في ظل عناية الدكتور لوريني الفائقة. ارسلت امي الى مستشفى Maugeri Hospital في Gussago، بالقرب من بريشيا لاعادة التأهيل. كانت على قيد الحياة ولكن ضعيفة جداً. العناية المكثفة للدكتور Massimo Benigno وفريقه من الاطباء والممرضات، جعلوها اقوى وبحالة مستقرة. تركت امي هذا المركز المتخصص في 30 كانون الثاني/يناير 2006 لبدء اعادة التأهيل الجسدي في دار التمريض Gleno في برغامو. التجربة في هذه العيادة لم تكن جيدة. مع ان امي احرزت تقدماً ملحوظاً. حتى لو لم تكن امي مكتفية الذات مثل السابق، عادت الى منزلنا في المدينة القديمة يوم الاثنين 10 نيسان/ابريل 2006، حيث اعتنت بها Fabiola الفتاة البوليفية الطيبة البالغة 31 عاماً. والآن مع Olinda امرأة رائعة من البيرو، كارولينا وانا نريد ان نشكر كثيراً.

لقد كان هذا فترة من الألم والمعاناة التي خلالها اختي وانا شعرنا معنيين ومشاركين بعمق. غالباً قد شعرت مستبعداً من قبل اناس عديدين اعتقدت انهم اصدقاء لي ولكن آخرين اعطوا لنا دعمهم. في هذا الكتيب اريد ان اشكر جميع الناس على سبيل المثال رلى لمقدمتها المؤثرة في الطبعة الثانية. هذا الكتيب فرصة للتطهير الداخلي. حيث ان امي هي متفوقة من خلال خبرتها وحياتها. زمن معاناتها كان مهماً ومؤثراً الى درجة لا استطيع ان اخاطر نسيان كم عانت وتعذبت.

لهذا السبب كتبت هذا الكتيب حيث جمعت 5 مذكرات من الصلاة والتأمل اعددتها لأصدقائي. هذه المذكرات لا تشمل كل الاشهر التسعة التي امضتها امي في المستشفى بل الوقت الذي امضت في Ospedale Maggiore في برغامو. في اوقات العصيبة اطلب الصلاة لجذب الانتباه، وقد كتبت بعض التوجيهات التي تحتوي على خبرة الاحداث المكتسبة، وعلى الواحد والثلاثين رسالة التي كتبتها لي امي، والثلاث وخمسون جملة تركت لي في الكتاب المقدس حين كانت في العناية الفائقة.

وبالتالي هذا الكتيب نوع من الحوار بين امي وبيني. ” امي العزيزة” هو عنوان الجزء الاول، الذي يحتوي على معلومات حول عملية قلبها، حيث الفصل الاول يشهد عطف يوحنا بولس الثاني على قلب امي الممزقة، والرسالة التي كتبتها في يوم سيامتي. في الجزء الثاني تحت عنوان ” عزيزي الأب لويجي” بات دور سانتينا للتكلم: في مجموعة رسائل وجمل ارادت توجيهها اليّ اولا كطالب لاهوتي ومن ثم ككاهن. والنتيجة هي مجموعة رائعة تحكمها صورة امرأة بسيطة ، لديها قوة داخلية متفوقة ونادرة، قادرة على تثبيت حياتها على شواطئ الصلاة الآمنة، الصلاة ذاتها التي تفتح وتغلق اكثر مراحل عذابها من وجودها في المستشفى. ويحوي الكتاب تأملات واسعة عن معنى تلك المعاناة وعن قيمة الحياة المشعة بنور الايمان والامل والاحسان. وفي الختام، سوف نكتشف قيمة التعبير التوراتي ” الله صخرة قلبي” . احتضنك وازرع قبلة على خ

 

جراحة قلب امي

18 تموز/يوليو 2005 – الساعة الثالثة – 8.40 بعد الظهر

 

القلب هو المكان الذي فيه سر الانسان يسمو في سر الله ” اليوم عشت اهم يوم في حياتي عند يوم سيامتي: رأيت قلب امي! القلب الذي اطعمني لسنوات طويلة! متأثر وممتن للذي خلقني ولمهارة الجراحين! لا أستحق! مندهش وكامل الامتنان! اشكرك لأنك قريب مني! المعركة كانت صعبة، لكن على الرغم من ضعغي لقد فزت (الساعة– 19 يوليو 2005 )”. أبدأ هذه الصفحات بهذه الرسالة التي نسختها من هاتفي الخلوي ، لأخبر أصدقائي ونفسي أيضا عن التجربة الرهيبة ولكن الرائعة في الوقت نفسه، عندما شاهدت الجراحة القلبية لأمي في غرفة العمليات.

لماذا أدخل الى غرفة العمليات فأنا راهب ولست طبيبا؟ لماذا اراقب واكون شاهدا، واشارك في هذه العملية الصعبة، عندما كثير من الناس والاصدقاء حذروني من هذا الاختيار؟ صبيحة يوم 18 تموز، في اهم يوم في حياتي بعد يوم رسامتي، اطرح على نفسي دائما السؤال ذاته… رسالة اخرى منسوخة من هاتفي الخلوي تكشف عما شعرت في صباح ذلك اليوم: ” اليوم سأبذل قصارى جهدي واكافح واعيش كل لحظة بكامل طاقتي”. أدين ذلك لأمي ولنفسي. الخوف كبير لكن استطيع ان اتغلب عليه اذا كنت حازما. انها صراع رهيب مع ذاتي وانا لوحدي لأن في العزلة المطلقة فقط يمكن ان تجد نفسك! سأدخل غرفة العمليات وسأبقى هناك لأن اليوم هنا هو مكاني. المكان الذي ستعاني فيه امي. وليس في الكنيسة لأن الكنيسة الحقيقية هي المكان حيث توجد آلآم. اختي تغسل والدتي. كنت قد شربت فنجني قهوة (  18 يوليو 2005، عند الساعة —). هذه السطور المؤثرة تعكس مشاعري قبل الاجتماعات التحضيرية مع رئيس قسم التخدير الدكتور – ورئيس الجراحة القلبية في برغامو – الدكتور –. كنت افكر عن آلآف المعاني التي تنسب الى قلب الانسان من الناحية الوجدانية والفلسفية، حتى اللاهوتية والتوراتية.

 

في هذا الصدد، اختار التعريف للقلب الذي قدمها العالم الالماني اللاهوتي الكبير Rahner Karl: ” القلب هو واقع حميم موحد الذي يثير الغموض ويقاوم كل تحليل. القانون الصامت اقوى من كل تنظيم او استغلال تقني للانسان. القلب هو المكان الذي فيه سر الانسان يسمو في سر الله: ؟؟ القلب يعني الحب، الحب غير الاناني، الحب الذي يفوز ولا يبحث عن المقابل، والذي ينتصر في الضعف، ويعطي الحياة عندما يقتل”. كنت على وشك ان ارى قلب امي. ليس اي قلب، لكن القلب الذي اطعمني عندما كنت اعيش في داخلها كجنين. القلب الذي بكى وضحك وقلق علي، القلب الذي انتظر  بإستمرار لعودتي من روما من النافذة الصغيرة في منزلنا في البلدة القديمة في برغامو. القلب الذي اجد فيه حالي، حياتي ووجودي… انظر الى قلب امي بإعجاب لأنها تحفة، وارى عظمة الله في خلقه. الاستغراب والدهشة والصمت تملأ قلبي واحتاج ان افهم ما يجري. طريق المعاناة هو الطريق الذي كان علي ان امشي لكي استطيع ان اتأمل في قلبها. كنت سأرى قلب امي البالغة ثمانين عاما لأنها كانت مريضة وتحتاج الى علاج طبي وجراحي. يا للغرابة. يجب متابعة طريق المعاناة لكي تكتشف قلبك: يسوع على الصليب اظهر لنا قلبه، قلب ممزق بالحب، والمعاناة ايضا! ما كنت استطعت ان انجح لوحدي. لكي يحصل كل هذا، كان المطلوب رجال ذو كفاءة مهنية عالية ومهارة تقنية، لديهم قلوب مليئة بالكرم والحب: قلوب اخرى فقط يمكنها ان تظهر لي قلب امي. قلب حياتي! باولو ولوكا، الطبيبان Ferrazzi و Lorini قاما بهذه المعجزة.

كاهن في غرفة العمليات؟

لا يمكنك ان تنظر الى قلب امك بنفس الطريقة التي تنظر الى حقائق اخرى. هذا الاعجاب نحو سر قلب الام كانت هدية لي من الله لكوني في خدمته منذ عشرين عاما. وانا افكر في الماضي وجدت تجربة مماثلة ربما تحضيرية للتي عشت في 18 يوليو 2005 من الساعة 3 بعد الظهر الى الساعة 8.44. في سنة 1986 كنت كاهنا شابا اكمل دراستي كطالب داخلي في المعهد البابوي، اخترت ان امارس الكهنوت في المستشفى الكبير San Giovanni القريب من المعهد. وهناك كسبت تجربة العيش مع واقع غرفة العمليات مرات عديدة. وهذه الصفحات التي أكتب ولدت قبل نحو 20 عاما. في بداية ممارستي ككاهن، طلب مني ان اشاهد عملية على الجمجمة… كم غريب: العقل والقلب، العضوان الحيويان، غنيان بالمعاني الهائلة! هذا ما كتبت عام 1986 . لفهم تجربة 18 يوليو 2005، يجب فهم العملية التي علمتني كم كان لها تأثيرا بالغا على حياتي والتي اعدتني لأشاهد العملية الجراحية لأمي.” اضواء قوية تنير منطقة العمليات محاطة بالشارة الخضراء المعقمة التي تمزج باللباس الجراحي. من خلال القناع الذي يغطي فمي، استطيع ان اشم رائحة المطهر الخفيفة ممزوجة مع الرائحة القوية لآلة الصدمة الكهربائية. التنفس الايقاعي لآلة المخدر يغرق اصوات المباضع. في صمت غرفة العمليات، الجو هادئ ونقي. الطبيبان Colantoni و Avitabile ينفذان عملية جراحية على الجمجمة. لا بد لي ان اشكرهم على عطفهم وصداقتهم لانهم قاموا بإرشادي في كل مرحلة من العملية. اعجب بمهارتهم المهنية، ينضم لها الثقة بالنفس والدقة. بعد التفسير الواضح الذي قدمه لي الدكتور Avitabile عن نوع العملية، وصف لي الدكتور Colantoni كل مرحلة من مراحل العملية. غريب ان اشاهد عملية كهذه: يشعرك كأنك في مكان مقدس مركزها الانسان. مكان مبتكر ليس لعبادة اي بطل او رجل قوي وشجاع، بل لشخص عاجز ينزف. كاهن في غرفة العمليات؟ ماذا يفعل هناك؟ هو يتعلم! يتعلم ما هو الانسان. في ذلك المساء اكتشفت عن الطبيعة الهالكة للانسان وفقره. رأيت المريض كإنسان عاجز وضعيف. اتساءل واقول: انظر كم انت صغير وضعيف! كل هذا شعرني بالانزعاج، ولكن في الوقت نفسه استطعت ان افهم ان هذا الانسان نفسه يؤدي عملية حساسة كهذه. وهكذا اكتشفت عظمة الانسان. انه امر استثنائي رؤية الفقر والضعف تجمعهما العظمة والقوة  في غرفة العمليات: تشعر بنوع من التناقض الذي يتطلب تفسيرا. انا ايضا اهتم بالانسان ربما بطريقة مختلفة ولكن بنفس الأهمية: مثل الجراح، اختبر هذا التناقض بين العجز والعظمة. هذا التناقض يتطلب تفسير يقدمه لي رجل غريب… رجل يدّعي انه هو الله، الذي ولد في اسطبل… يتحدث عن الحياة الابدية ويموت على الصليب… لذلك هو رجل يحب التناقض يختبره ويجسّده: يسوع المسيح. ثم ادركت انه من المستحق ان اؤمن بالانسان حقا واكرس له خدمتي كما رأيت في عيون الجراحين في ذلك المساء. لا يهم كيف. كل ما يهم هو فهم ان معنى الحياة يكمن في هذا التناقض  وكل انسان ضعيف يطالب بالخلود واللانهاية ( غرفة العمليات لإصابات الرأس في مستشفى San

Giovanni عام 1986).

اشكر الرب على حصول امي على العناية المتطورة والتقنية:

امسك يد امي وهي على السرير تتجه نحو غرفة العمليات. ثم كان علي ان اتركها لأغير واغسل. علي ان اخلع ملابسي، واتركها في خزانة وارتدي قميص بأكمام قصيرة وسروال اخضر وجوارب بيضاء وقيود. وضعت قبعة جراحية وقناع. ثم هناك طريقة منهجية لغسل اليدين والاكواع. الاشارة تحت —- لا تقل عن ثلاث دقائق. قبل الذهاب الى غرفة العمليات، ارتديت ثوب معقم فوق ملابسي الجديدة. اجد امي في الغرفة المقابلة لغرفة العمليات، نمزح معا ونجد الوقت الملائم لنقول السلام عليك يا مريم، ونصلي للملاك الحارس. العمليات التحضيرية كانت قد بدأت حتى لو انها لم تكن على علم بها: بدأ التخدير يعطي مفعوله ونتائج المرحلة الاولى لفحص الدم كانت قد وصلت ( خلال العملية سيفحصون دمها مرات عديدة)، مشيرة لأطباء التخدير الادوية التي يجب استخدامها. ينضم الينا لوكا، المشرف على عملية التخدير ليشجعنا. هو الذي سيكون مسؤولا في الاشراف على العملية التخديرية. عملية غير معروفة وغير محددة، ولكن لها اهمية كبيرة. الدكتور Lorini سيدير هذه العملية الطويلة من ناحية الادوية التي ستعطى بإستمرار وبحذر شديد ( بقدر كبير من العناية) لحفظها تحت التخدير.

وهناك عملية مثالية تنتج عن نوع من التكافل بين الجراح وخبير التخدير، وهذا التكافل منسق بين رئيسين موهوبين مثل Lorini و Ferrazzi . تدخل امي في نوع عميق ويدها يستريح في يدي. يمر نصف ساعة و Luca ينظم التخدير. عليهم ادخال الانابيب وشغل الجهاز الذي يقيس ضغط الدم والقلب، ويؤمن التنفس الاصطناعي. في الوقت نفسه، تصل قارورة الدم التي ستستخدم: يجب فحص العدد، موعد الانتهاء وفئة الدم.

 في هذه المرحلة التحضيرية، الاحظ ان غرفة العملية مزدحمة وهي تشبه بذلك خلية النحل، حيث كل عامل يجب ان يؤدي واجبه دون الوقوع في خطأ. ألاحظ المسؤولة عن الجناح Cristina Pifferi تراجع كل شيئ بعناية كبيرة، تشجع وتصحح اية عيوب.ان فريق التخدير يستخدم معدات متطورة تمكّن Luca ليعرض عليّ الصور الاولية لقلب امي سانتينا والقصور في الشريان الذي كشف عنهم الدكتور Valsecchi. من المدهش كيف أنّ الجراحة والتخدير وعلاج الالم والعناية المركزة تطورت خلال العشرين العام الاخيرة. الصور غير عادية: تدهشني في البداية، وهذه الدهشة ستزيد خلال العملية الصعبة ولكن المتقنة التي تقوم بها جماعة من المهنيين المختصين.

فريق آخر من التقنيين المختصين يعدّون جهاز آخر سيحتاجونه خلال العملية للدورة الدموية الخارجية لدم امي. هؤلاء التقنيون سوف يبقون المريض على قيد الحياة خلال الساعتين واربعين دقيقة المتتالية. اطلب من الله ان يدير ايديهم وعقولهم.فريق آخر، بقيادة الدكتور Ferrazzi، يتألف من جراحي القلب الذين سيبدأون العملية خلال الدقائق القليلة: المساعد الاول هو Samuele Pentiricci طبيب شاب وعازم، والدكتور Costantin Dinieka الذي على وشك ازالة العرق من القدم من اجل تجاوز الشريان التاجي. ويساعدهم ممرضة تدعى Anna Maria Urtis التي ستقوم بمساعدة الرئيس اثناء العملية الثانية بين 29-30 تموز 2005، (بعد ان توقف قلب امي)، اذ هي سريعة في فهم الاحتياجات الفورية للجراحين واعطاءهم ما هو ضروري للعملية.بالاضافة الى هؤلاء الاشخاص الثلاثة، هناك بعض الممرضات، من بينهم  Maria

Berardelli التي تأتي وتذهب عند الضرورة.

 

اطباء اخرين وممرضات يعملون في الخارج. عليهم فحص نتائج فحص دم امي والتي يحتاجها طبيب التخدير من اجل عملية تخدير امي. كما انهم يعدون ويعتمدون السكاكين.هذا العدد الكبير من المختصين مجتمعين حول قلب امي، في حين ان الكثير من الفقراء ليست لديهم اية عناية طبية، ويموتون من الجوع. اشكر الله على ان امي قادرة على الحصول على هذا النوع من العلاج الدقيق والمتطور. نحن حقا لا نستحقها، انها هدية من العناية ومن بلدتنا الجميلة برغامو. 

 

 

انا مليئ بالاعجاب واتساءل كيف الخالق جعل تحفة من كل واحد منا

غرفة العمليات جاهزة و Samuel يبدأ بالجراحة، في حين ان Costantin يشق الساق لازالة العرق الاسفين. العملية تهدف الى وضع ثلاث مجاري جانبية على تكلس الشريان التاجي واستبدال الشريان الأورطي المكلس ايضا. الدكتور Ferrazzi هو الذي سيؤدي العملية، ولكن، قبل هذا، الجراحون عليهم العمل لمدة ساعة واحدة. عيون مركزة وايادي ماهرة تقطع الاوعية الدموية التي تنزف، تعزل الشريان الثدي وتحضّره، للقدرة على استخدامه خلال العملية. مرة اخرى كما قبل عشرين عاما، السكون يسيطر على غرفة العمليات، ويبدو ان الصمت هو الذي يسمح لي ان انظر الى القلب! شيئا فشيئا، تحت ايادي Samuel الماهرة، اللحم والقفص الصدري ينفتحان ليكشفا عن الرئتين اولا وبعد ذلك القلب.اشعر بقوة كبيرة وبأحاسيس عميقة وكل امتنان شديد تجاه هذا القلب القيم الذي غمرني حبا من اجلي. انه قلب مريض وارم من كثرة الجهد وفن الحب الذي اعطى لزوجها، لأولادها واحفادها وكل من التقى بها كل يوم في الشارع، الفقير والغني والمبشرين، ولكن قبل كل شيئ ابنها الكاهن: ” لويجي!” اتذكر ما كتبتها لي في رسالة قديمة ارسلتها في 11 اكتوبر 1981، حين وصلت الى روما لأكمل دراستي: ” احبك كثيرا وانت دائما الى جانبي، وخاصة عندما اتلقى الله في قلبي، اتحدث اليه عنك وارجو منه الدعم المعنوي”. في تلك المناسبة كشفت امي قلبها لي بطريقة مختلفة! اشكر الله لأنه اهداني امي، ما كانت وما تزال بالنسبة لي. تشبه غرفة العمليات مأوى فيه قلب يخفق من اجلي. اليوم كنيستي ورعيتي هنا. كما كتبت في نص رسالتي:

” هذا هو مكاني اليوم، المكان الذي سيعاني فيه امي، وليست في الكنيسة، لأن الكنيسة الحقيقية هي حيث هناك الالم والمعاناة”. هناك تناغم تام يسيطر في اجسادنا، الذي يبدو كأنها اعجوبة. القلب يخفق بشكل متوازن، والرئتان تعطيان الاوكسجين للجسد: ارى انسجاما رائعا، الذي ربما يكون اجمل اشارة للانسجام الروحي الذي يعطي لأمي الهدوء ومعه تلتقي الاخرين في حياتها المليئة بالصلاة والصمت والعزلة. ليسمحني رب الحياة ان اعيش بضعة سنوات مع عونها ونصائحها وقوتها.

بينما اقوم بصياغة هذه الصلاة، Paolo يدخل الغرفة حاملا صندوق يحتوي على النظارات والعدسات الخاصة التي ستستخدم اثناء هذه العملية الحساسة. ويبدأ بالعمل مباشرة. يعمل على ملمترات من الانسجة، ولا يمكنه ان يخطئ بسبب التكلس في الشريان. انه عمل دقيق يستدعي الصبر، حيث الغرزات تكاد تكون غير مرئية : حتى سعال، وهي خطوة يمكن ان تسبب ضررا لا يمكن اصلاحه. تركيزه قوي، وخبرته ومهارته المهنية لا تفشلانه. يعمل بمنتهى الدقة وبهدوء تام. وشيئا فشيئا اركز عليه. لقد وصلنا الى المرحلة الادق في العملية. بعد وضع ثلاث مجاري جانبية على التاجية عبر الدورة الدموية الخارجية، Paolo يفتح القلب ليستبدل الصمام الاورطي المكلس.

 قلب أمي المفتوح يملئني بالدهشة والاعجاب. اشعر بالاعجاب المطلق لعمل Paolo: هذا العمل الدقيق، والهام والغير معروف لمعظم الناس، لأنه مختبئ في مأوى غرفة العمليات. الامور الاجمل والاعظم تحدث في الصمت والعزلة، لا يحبون “الدعاية”. هذا يحدث في حياة مليئة بالايمان. في حياة امي ايضا، حتى وهي صغيرة ومتواضعة ولكنها كبيرة في عيون الله.

 

تسكن الحياة في القلب

قبل سنوات، قد شهدت عملية جراحية على الدماغ: موضع الذكاء والارادة. وقد قمت بمقارنة بين ضعف المريض وقوة جراح الاعصاب. في مقارنة العملية التي نفذها Paolo على قلب امي المريضة، كانت بمساعدة جرّاح القلب الذي يملك قلبا سخيا والذي مع خبير التخدير، كان يضع كل علمه واختصاصه ليشفي قلب امي. المهارة والاتقان لا يمثلان شيئا اذا لم يحركهما السخاء الموجود في القلب.

 السخاء والعطاء من قبل هؤلاء الناس قد ادهشني بشكل كبير، وادركت ان هذا العطاء مع الكفاءة اشعراني بالثقة، وتأكدت انهم يعملون كل ما يمكن لمساعدة امي. كنت قد دخلت الى غرفة العملية مليئ بالشكوك والمخاوف، ولكن الآن كنت على وشك مغادرتها مفعما بالامل والسلام. حينها شعرت انني كنت قريبا من امي في هذا الوقت العصيب، في حين انها كانت قريبة مني خلال بعد الظهر من ذلك النهار بطريقة عميقة وحميمة، لم اكن اتصور كان من الممكن ان يكون. شعرت قلبها قريب من قلبي، بنفس الطريقة التي كانت تنتهي رسائلها بالجملة الكاشقة عن قلبها كأم. جملة وجدتها في رسالة قديمة ولا تزال تؤثر فيّ بعد كل هذه السنوات العديدة: ” اضمك الى حضني وازرع قبلة كبيرة على خدك، أمك” (8 ايار/مايو 1983 – برغامو).

 كنت اظن انني قريب من هؤلاء المهنيين. ولكن بعد ظهر ذاك اليوم، هؤلاء المهنيون أنفسهم علموني من خلال العزلة والتواضع انهم قادرون على ان يكونوا قريبين من كاهن قد دخل الى غرفة العمليات باحثا عن مفتاح الحياة. في رواية تدعى Momo ، قال Michael Ende أنّ ” الحياة تسكن في القلب”: في ذلك اليوم بعد الظهر، قد سمح لي في ظروف غامضة من رؤية منبع حياتي، اي قلب امي وفهم ان لكل عمل مهم دوافعه في القلب.

 كانت العملية ناجحة ولكن، بعد ايام قليلة، فشل في قلب امي ادخلها مجددا في العناية المركزة، اي يعني حتى يومنا هذا. لم اكن اعرف ما ستكون نتيجة هذا المرض. صليت الى الله ليحفظ قلب والدتي لسنوات عديدة، وكنت آمل ان اتمكن من قراءة هذه السطور وانا معها. هذه السطور نفسها عهدتها لأصدقائي، وانا متأكد أنهم سيساعدون الاخرين كذلك، لايجاد مفتاح الحياة الذي يعطي معنا لكل افعالنا، وهذا ما يُسمّى القلب! ( الاثنين 1 آب 2005).    

      عطف يوحنا بولس الثاني على قلب امي الممزقة

2 آب 2005 – برغامو، روما

 

الاطلاع على احداث تلك الايام ببطء وتمهل

لقد مضى اكثر من عام منذ 2 آب 2005، سنة وخمسة اشهر تحديداً. حتى لو كنت مصمما على ” ترك اثر” عن كل شيء حدث، الاحداث المرتبطة بمرض امي والتي كانت مغامرة رهيبة ولكن رائعة في الوقت عينه. اردت غالبا ان اكتب عن هذه القصة. القصة التي على وشك ان اكتبها يجب ان يقرأ في الضو المناسب، وليس قراءتها بمثابة معجزة، لنتمكن من اعطاء التفسير الصحيح والمتوازن عن الحقائق، بدون مخاطرة إفساد ما حدث بالمعاني المستبعدة. علينا ان ندخل على احداث تلك الايام “كأننا على رؤوس اصابعنا”، لكي نرى خير الله.، معاناة امي الكبيرة، صلاة الراهبات، وسخاء الاطباء الموهوبين وظل يوحنا بولس الثاني وعطفه. كتب يوحنا بولس الثاني: ” بالطبع فهناك ايادي خفية تحملنا، بينما نبحر القارب على طول مسار الاحداث بالرغم من كثرة الكثبان الرملية”. ( المصادر والايادي من الاعمال الادبية المكتملة ، Karol Wojtyla).

في تجربة امي، ايادي يوحنا بولس الثاني حملتنا لتخطي اللحظات الصعبة، التي كانت بمثابة الكثبان الرملية. في حين انه من السهل الكلام عن كل الحقائق الاخرى لأنها واضحة، غير انه من الصعب جدا الكلام عن الحضور الخفي غير المرئي ليوحنا بولس الثاني خلال مرض امي. انه حضور لا يمكن ان نرى او ندعمه بالوثائق. احب فكرة ظله الطيب للبابا الراحل وعطفه الذي كان يُهدئ آلام امي الحادة. امي كانت دائما تتحدث عن البابا Wojtyla بإحترام كبير.

كانت لسانتينا الفرصة للقاء الاب الاقدس، البابا يوحنا بولس الثاني ، بضعة مرات. مرتين على الاقل: مرة في قصر Gandolfo ، عندما كنت طالب القواعد في معهد تعليم اللهوت في Bergamo ، وذلك في آب 1987. ومرة اخرى في شقته في القصر الرسولي عام 1995، بعد تقديم واحد من كتبي. الصورتان التي لا تزالان معلقتان في البيت تشهدان على هذه الاجتماعات: الصورة عن اللقاء الثاني في اطار فضي . كانت امي تتحدث عن البابا Wojtyla باحترام كبير، و كانت دائما تطلب مني ان اطيعه، كما جاء في الرسالة في 21 تشرين الثاني 1982: “تعهّد الاطاعة والمحبة والاحترام للبابا الاقدس، أكثر فأكثر”. عند وفاته، Santina تأثرت كثيرا وشاهدت جنازته بألم ومشاركة كبيرة، وكانت تعتبره قديسا.

 

اذا القلب لم يخفق بإنتظام في غضون 48 ساعة ، يجب ان نستعد للأسوأ!

ولكن اين يمكن ان نرى ظل خادم الله خلال الاحداث الحزينة لمرض امي؟ من اجل فهم ما حدث من المهم اعطاء تفسير موجز عن تلك الايام في المستشفى. خضعت للعملية الجراحية في القلب يوم الاثنين 18 تموز 2005. العملية كانت ناجحة ولكن خلال الليل ما بين 22 و23 تموز 2005، عانت من فشل رهيب في القلب، ربما ناتج عن تعقيد في الغدة الدرقية. وهكذا بدأ طريقنا الى الجلجلة. الازمة القلبية العنيفة جعلت قلبها يدق مرة اخرى ولكن هذه المرة مزقت جدران قلبها، التي كانت ضعيفة بعد ان خضعت لعملية خطيرة قبل ايام قليلة. خلال الاسبوع ما بين 23-30 تموز حالة امي ازدادت سوءا. كان قلبها محاصرا بالجلطة الدموية. الفحص بأشعة فوق الصوتية كشف عن وجود دم متجمد الذي لا بد من ازالته بسرعة. في ليلة 30 تموز عاد بسرعة Paolo Ferrazzi الى Bergamo واخذ امي الى غرفة العمليات محاولا ازالة تجلط الدم الذي كان يهدد بقتل قلبها. المسؤول عن جراحة القلب اتصل بي في الساعة الثانية صباحا يوم الاحد: ” ابونا جيجي، العملية كانت ناجحة، الجراحة اجريت بشكل تام، ويمكن للقلب ان ينبض بشكل صحيح. لقد تفحّصت المجاري الثلاثة ايضا، انها تخفق بشكل جيد جدا وانها تعمل بشكل صحيح”. بعد ايام قليلة، قالت لي الممرضة Anna Urtis التي كانت في غرفة العمليات، ان الدكتور باولو  قد بذل قصارى جهده في تلك الليلة، وخاط اخر جرح على بشرتها. الاطباء حقا وضعوا كل كفاءتهم وسخائهم في العملية! ولكن… الوضع لم يكن على ما يرام.

بقية المكالمة الهاتفية في منتصف ليل 31 تموز لم تكن مطمئنة اطلاقا. تابع باولو قائلا: ” ابونا جيجي، فعلت كل شيئ  يمكن. وكانت العملية ناجحة، ولكن …”. هذا “لكن” جمّد قلبي وتابع Ferrazzi : ” قلب امك ضعيف، وقد خضع لعملية جراحية واحدة وعانى من فشل في وظائف القلب. وخضع لعملية اخرى، جراحة tampon age ؟؟… لا استطيع ان اعدك اي شيئ. نبضها ليس منتظما وانه مع الشرايين الليفية. وهذا طبيعي تماما بعد هذا الاسبوع. ولكن اذا القلب لم ينبض بانتظام خلال 48 ساعة، يجب ان نكون مستعدين للأسوأ! يجب علينا ان نأمل، فأنت في الآخر رجل ايمان…”.   

 باولو ولوكا اتصلا ليقولا لي ان الوضع لم يتحسن.

عند الساعة الثانية صباحاً يوم الاحد 31 تموز، كنت في مزاج مضطرب، بالكاد قادراً على اخفاء مشاعري عن الاخرين، كنا مع اصدقائي واقاربي نشعر بتوتر داخلي قوي.   

بسبب حرارة شهر آب والقلق الشديد لم استطع النوم في تلك الليلة، كنت اصلي واتنهد بالافكار والمخاوف العميقة.

كنت في الفناء حاملاً المفاتيح مستعداً لمغادرة Bergamo. وفجأة توقفت. الطبيب المسؤول قال لي ان من الغباء المغادرة في منتصف الليل… جاء الصباح قضيت كل اليوم اتصرف كالآلة. كنت اشعر باللامبالاة والخنق والمزاجية قي الوقت نفسه. والمكالمات الهاتفية مع الاطباء والممرضات والاصدقاء… والصمت الطويل. مساء الاحد، باولو ولوكا اتصلا ليقولا لي ان الوضع لم يتحسن بعد مرور 24 ساعة… ليلة اخرى بلا نوم، بالقلق كانت تنتظرني: قمت بزيارة الكنيسة، اتصلت بالعناية المركزة عدة مرات… ثم طلع الفجر مجدداً: كان علي الذهاب الى المكتب. ذهبت الى العمل ولكن بالي كان يذهب بعيداً. لقد شعرت بالحاجة للعودة الى برغامو، لكن الاطباء كانوا ينصحونني بالبقاء: ” ابونا جيجي، دعونا ننتظر، واذا تعافت امك ستكون بحاجة اليك”. جاء المساء. كان الجو حاراً جداً في اول آب. المكالمة الثالثة لم تكن مطمئنة. ” ابونا لويجي، Santina لا تزال بالشرايين الليفي”. ولكن ضميري كان يعطي 24 ساعة اخرى، فالساعات الثماني والاربعين الحاسمة قد مرت…

حياة والدتي في خطر، في العناية المركزة. اطلب من يوحنا بولس الثاني معجزة قد تمنحها الشفاء.

كنت في غاية الانفعال والقلق عن الذي سيحدث. هل كانت ستتعافى؟ الليلة الثالثة كانت طويلة! لم استطع ان اصبر. جاء الفجر، ارتديت ملابسي في عجلة ثم مشيت نحو كنيسة مار بطرس … ذهبت الى قبور الباباوات ومشيت حتى وصلت الى قبر يوحنا بولس الثاني. وعيوني تزرف دموعاً، وقعت على ركبتي قائلاً: ” ارجو منك ان تسمعني! لقد امضيت تسعة سنوات من حياتي هنا في خدمتكم. ادعو الله ان يمنح امي تسعة سنوات. كانت صلاة بسيطة ومباشرة، هذا كل ما كان بوسعي ان اقوله. كنت مستاءً وبالكاد استطيع ان اخفي دموعي. بينما كنت اصلي رأيت كاهناً يتجه نحوي، كنت مرتبكاً فنظرت مرة اخرى… كان الاب Stanislaw الامين السابق للبابا Wojtyla. ” ابونا جيجي، ماذا تفعل هنا؟”. ” ابونا Stanislaw ، حياة امي في خطر، طلبت من البابا يوحنا بولس الثاني المعجزة التي قد تمنحها الشفاء”.

” ألا تعرف ما تاريخ اليوم؟”.

” نعم اعلم. 2 آب 2005!”.

” بالتأكيد! ولكن اليوم مرت اربعة اشهر على وفاة يوحنا بولس الثاني، انه ذكراه… انا على وشك الاحتفال بالقداس”. ” هل لي ان اشارك سيدنا؟”.

” بالطبع يمكنك!”. وقد ذهبنا الى غرفة المقدسات لكي نستعد. بدأ القداس عند الساعة السابعة والنصف. خلال تناول القربان المقدس، صليت للرب بقوة شديدة: ” يا يسوع، هنا في كنيسة القديس بطرس، امام قبر يوحنا بولس الثاني، بواسطة شفاعته، اطلب منك ان تمنح امي عدد السنوات التي امضيتها كأمين عام لدولة الفاتيكان، في عهد البابا يوحنا بولس الثاني. عندما انتهى القداس، ذهبت الى قبر يوحنا ثانيةً، وصليت بصمت امامه. لقد تأثرت كثيراً. ودعت الاب Stanislaw  ولبست سترتي وبخطوات بطيئة ذهبت الى مكتبي.

  لدي اخبار سارة. منذ صباح هذا اليوم قلب امك بدأت تخفق بصورة منتظمة دون خلل ويدق بإيقاع ؟؟ مرة اخرى.

لقاء الاب Stanislaw ، القداس والصلاة أشعرتني بالسلام والهدوء. خرجت من المصعد في الطابق الثالث، ادرت الكومبيوتر واستعدت للعمل. كان يوم عمل آخر.

رن الهاتف، لأول مرة في ذلك اليوم. وبعد اربعة رنات اجبت: ” مرحباً، هل هذا المونسنيور Ginami انا سكرتيرة الدكتور Ferrazzi. انه يريد ان يتحدث معك”. “مرحباً جيجي، انا باولو، هناك اخبار جيدة، فمنذ صباح هذا اليوم قلب امك بدأ يخفق بإنتظام: ليست لديها خلل في خفقان القلب وقلبها يدق بإيقاع تجويف مرة اخرى. ترى، اننا كنا على حق، ان لا نفقد الامل، صلاتك مستجابة! واضاف:” ربما لم يشعر بتأثير ما قاله لي… كنت بالكاد قادر على السيطرة على فرحتي وكتمت في قلبي كل الذي عشت، كل الذي عشت ذلك الصباح على ضريح يوحنا بولس الثاني.

” شكراً، باولو! اشكرك على كل شيئ فعلت من اجل امي… سأراك قريباً في Bergamo “. اقفلت الخط ومسكت رأسي الثقيل بيدي وانفجرت دموع الارتياح. دموع غزيرة تجري على خدودي، ولكن هذه المرة كانت مختلفة عن قبل. بكيت، وقلت شكراً وثم بكيت مرة اخرى. كنت مليئاً بالفرح، وكنت خائفاً من تحديد ما حصل  من معجزة. وعدت نفسي انني لن اخبر اي شخص في الوقت الحاضر. اتصلت بكارولينا. استعدت رباطة جأشي وقلت:” كارولينا، لقد اعطاني الطبيب اخبار جيدة اليوم. قلب امنا بدأ يخفق بإنتظام. امنا ستنجو!”.

 عطف يوحنا بولس الثاني كان جيداً بالنسبة الينا: ظله حمانا وشجّعنا.

الاشهر التالية لم تكن سهلة. ففي تشرين الاول كانت حياة امي في خطر مجدداً بسبب تعفن الدم… 109 يوماً  في جحيم العناية المركزة. الم بعد الم… العديد من المشاكل الجسدية، والآن امي ليست المرأة التي كانت من قبل، حتى ولو نراها ملاك، وذلك بفضل حسناتها مع معاناتها وابتسامتها.

كان اختباراً صعباً بالنسبة الينا جميعاً. ولكن عطف يوحنا بولس الثاني كان خيراً بالنسبة الينا. وكان ظله يحمينا ويشجعنا. ولقد مررنا بهذه التجربة القاسية، ولكن بمساعدة شخص أشعرنا انه بجانبنا في هذا الوقت العصيب.

خلال الاشهر التالية، حاولت ان اخبر لبعض الاصدقاء المختارين عن عطف يوحنا بولس الثاني.         

ولم ارد ابداً تحديد ما حدث ووصفه بمعجزة. ربما بهذه الطريقة ستزال معلّقة في سرّ الله.

جميع الاصدقاء الذين اخبرتهم عبّروا عن دهشتهم! لماذا قررت ان اكتب عنها الان؟ لأن مع الوقت ادركت انني اريد ان ارى التقارير الطبية لأمي في تلك الايام. في عيد الميلاد الماضي، رأيت باولو وطلبت منه هذه التقارير الطبية التي سجلت في الايام الثلاثة الاولى من شهر آب. وهذا ما وجدت:

سجلات العناية المركزة

الدكتور فرانكو فيري، مسؤول قسم العناية الفائقة في جراحة القلب، دائما يوقّع على نتيجة السجلات اليومية. السطور القصيرة صعبة جداً لأنها تقنية ومتخصصة. فهي تظهر بعد العمليتين كيف كان اهتمام الدكتور Ferrazzi مركّزاً على ايقاع القلب. اخترت استخدام الحروف الكبيرة، لأنها الاهم في سجلات القلب الطبية في تلك الايام.

 

1 آب 2005

التقرير الطبي يصف الوضع كحالة خطرة جداً، ويؤكد التدهور في الوظائف الحيوية. بعد فترة قصيرة، التقرير يؤكد على ان وضع سانتينا يترنح بين الايقاع المجوّف … الحالة سيئة جداً…

2 آب 2005

هذا هو يوم صلاتي امام قبر يوحنا بولس الثاني. اتذكر ان صلواتي المركزة بدأت حينها من الساعة 7.30 صباحاً. التقرير الطبي يظهر بأن الوظائف الحيوية مصابة بخلل كبير، لكن الخطوط القصيرة تشير الى ايجابية ما: قلب يعمل مجدداً بإيقاع مجوف. بالاضافة الى ان عملية ضخ الاكسجين SVO2  جيدة …

3 آب 2005

منذ 2 آب ووضع قلب امي اصبح جيداً ويخفق بإيقاع طبيعي…   

لا اعتقد انه يمكننا ان نحدد ما حصل من معجزة، ولا اريد وصفه كما شرحت في الاعلى. ومع ذلك، أشعر بأنني لا ازال أتساءل عن التحسّن الواضح في حالة قلب Santina في 22 آب 2005، في يوم مرور اربعة اشهر على وفاة يوحنا بولس الثاني. في اليوم الذي احتفلت فيه بالقداس وصليت لخادم الله ليمنح الصحة لأمي. اجاب يوحنا بولس الثاني الى صلاتي وحنّ على قلبSantina  الممزّق… وهذا ما كنا بحاجة اليه.

 فرح الرب هو قوتنا

رسالة لأمي بمناسبة اول قداس لي – 21 حزيران 1986 – برغامو

 صباح رأس السنة الباردة في بكين.

السماء غائم في بكين ويبدو انه سوف يثلج بعد لحظات قليلة. امي تحدّق في حشد الدراجات تتحرك على طول الشوارع وتتوقف على اشارات المرور. الدخان الناجم عن الفحم المستعمل للتدفئة في المنازل والابنية يعطي فصل الشتاء مشهداً كئيباً. انه 31 كانون الاول عام 1998. هذا الصباح نريد زيارة احد اقدم المعابد في المدينة الامبراطورية الرائعة بكين، عاصمة مملكة قديمة، مليئة بالتاريخ والحكمة. الجو بارد جداً والصقيع المتجمّد في الينابيع وعند جوانب الشوارع. سنذهب لزيارة معبد الجنّة (Temple of Heaven). ادراج واسعة تؤدي نحو المعبد الصيني النموذجي. فالأمبراطور كان يأتي الى هناك للتأمل. المرشد الصيني يدلنا على تمثال في وسطه حجرة ضخمة ومستديرة. ” من فضلكم فقوا على الحجرة وتمنوا، سوف تتحقق امنيتكم”. مسكت يد امي ووقفنا على الحجرة. انا فضولي جداً ولم استطع ان اضبط نفسي، فسألت امي:” هيا يا امي، اخبريني ماذا تمنيت!”. ظلت امي ساكتة ولكنني اصرّيت: ” من فضلك يا امي. هل تخبرينني عن امنيتك؟”. نظرَت في عينيّ كما تفعل دائماً واجابتني بكل جدية: ” انا لا اؤمن بهذه الامور، وانت تعلم جيداً. ولكن اعتقد انه يمكن ان نطلب من الله شيئ جيد في اي مكان. لذلك ألّفت في صلاتي: ” يا يسوع، ارجو ان يكون الاب جيجي كاهناً صالحاً!! هذا لا يتوقف على حجر تافه. ولكن على الله وعليك! تذكر هذا دائماً: هل فهمت لويجي؟”.

لقد نزلنا من فوق الحجرة، وهذه الجملة ظلت في تفكيري طوال اليوم. عند المساء، كنا في الفندق ونشاهد من الشباك على اكواخ الفقراء وعلى الدخان الكثيف من المداخن، قبلت امي قائلاً: ” شكراً لصلاتك اليوم. اتعهد انني سوف ابذل قصارى جهدي ان اكون كاهناً صالحاً!”. فأجابت عليّ مشيراً الى منازل الفقراء في بكين، ” افعل من اجلهم، من اجل الفقراء. كل عام وانت بخير ابونا جيجي”. وبعد تبادل التمنيات بليلة سعيدة، ذهبنا الى السرير.

 لا تنفع اي شيئ قبل الرب، حتى والدك وامك.

” بينما كانت المفرقعات تندلع، الاباء والاطفال يسرعون الى الخارج. وفجأة ادركوا مرعبين ان اصغر واحد الذي كان يبلغ من العمر خمسة سنوات كان مفقوداً. ولكن فوقهم نافذة العلية فُتحت، والصبي صرخ من اعلى رئتيه ” ابي، ابي”.

فصرخ الوالد: ” انزل!”. كان الصبي لا يمكن ان يرى الا النار والدخان الاسود تحته، ولكنه حين سمع الصوت اجاب: ” لا استطيع ان اراك يا ابي…”.

” انا استطيع ان اراك وهذا يكفي… اقفز” صاح الرجل.

فقفز الطفل وهبط بسلامة بين ذراعي ابيه، انت لا تستطيع ان ترى الله، ولكن الله يستطيع ان يراك. قام بعمل حاسم! (Bruno Ferrero ، لماذا انت خائف؟ in Is There Anyone Up There? LDC )

الانجيل يطلب منا بشكل جذري ان نخسر الحياة، وان لا نضع شيئاً قبل الرب حتى الاب والام. ويقترح ايمانا جذريا، مثل الايمان الذي وجّه ابراهيم عند استعداده بالتخلي عن ابنه من اجل الرب.  يجب علينا ان نحب الله بلا حدود، كما فعل الرب عندما وهب حياته لنا. وعلينا اختياره ليس لأنه يقدم لنا شيئاً بالمقابل، بل لأنه الرب. فهو فوق الزمان والمكان، فوق كل شيئ. فالتابع الآتي من عند السيد المسيح يجعله حاضراً. ومن الذي يرحب به، يرّحب بيسوع، المسيح والمخلص. اذا كان الانجيل يطالبنا بأن مكان الله قبل اي شيئ آخر، فيجب علينا ان نتبنى سلوك مسيحي يسمح بحدوث هذا الامر. في تجربتي الشخصية،  اخترت ان لا اضع اي شيئ قبل المسيح في يوم 21 حزيران 1986 تحديداً، كان يوم رسامتي الذي اعتبرها الاهم في حياتي. اكثر اهمية من تاريخ ولادتي، والذي انتهى برسامتي ككاهن.  

والدتي هي الانسانة التي اخذتني بيدي الى ذاك اليوم الرائع والمجيد. ادين لها كل ما انا عليه اليوم. مديناً لها لإيمانها بإعتبارها مثلاً ساطعاً، كما كتبت رلى جبرايل في مقدمتها لهذا الكتاب: ” الام الضعيفة التي تذكرنا بأن الله موجود في كل مكان وعنايته لنا في كل لحظة من حياتنا”. حتى مثل هذا الطفل في القصة، لا نستطيع ان نراه.

لقد كتبت هذا الكتيب على شرفها بدءاً من الرسالة التي كتبتها وقرأت امام الجميع في 22 حزيران 1986، بمناسبة اول قداس اقمته. وفي رسالة شكر وبرنامجيّ في الوقت نفسه، والتي لا تزال تعكس روح الكهنوت ومشاعري تجاه امي التي علمتني التسليم والثقة بالله.

على سبيل المثال، يوم الاحد في 15 ايلول 2005، خلال اول حديث روحاني معها بعد عمليتها الجراحية، حينما كانت لا تزال في العناية المركزة، كانت امي مرشدي الروحي مرة اخرى: ” ابونا جيجي، عليّ ان ارتدي ملابسي لكي اذهب الى القداس”.

” ليس من الممكن، امي، لماذا لا نقول صلاة المغرب؟ فأنت تعرفينها غيباً!”.

فوافقت، وبعد الصلاة ارادت ان نصلي من اجل عمي، الاب لويجي ومن اجلي، ثم طلبت مني: ” هل تحبني؟” . فأجبتها بقبلات.

” ابونا جيجي، ابقى مع الله وكن كاهناً صالحاً! “. هذا الكلام الموجز والروحاني اظهرت لي ان امي هي مرشدي الروحي! بالنسبة لها، القربان المقدس هو الحياة.

 من يفهم كيف اشعر في هذه الايام؟

رسالة الى امي في يوم رسامتي – 21 حزيران 1986، برغامو

امي العزيزة،

من يستطيع ان يفهم بماذا اشعر في هذه الايام؟ المشاعر والعواطف يملأن ذهني بالفرح. لا استطيع حتى ان اعبر عما اشعر .. من بين جميع الاعزاء المحيطين بي، انت قريبة لي بشكل خاص. انت قريبة مني بصلاواتك، بدهشتك وفرحتك الكبيرة التي تتجلى في الصمت اعظم من ان يعبر عنها. اليوم كما كتب Pietro Scuri في قصيدته الجميلة ” حلم قد استيقظ”، حلم ونحن نواجه الافراح والاحزان. ولكن من سيوقظ هذا الحلم؟ سوف يوقظ شخصين: كاهن وامه! في هذه الايام لقد تغيرت حياتي تماماً بفضل نعمة الكهنوت. الخبز على المذبح يتحول الى جسد المسيح، على الرغم من حفاظه على مظهره الخارجي. في الامس اصبحت كاهناً ولكن حتى الان استناداً الى المظاهر انا الرجل ذاته مع كل عيوبي ونواقصي.

من الامس فأنتِ لم تعودي ام طالب اللاهوت. فأنت اصبحتِ ام كاهن! في هذه الايام، كان من السهل ان نفكر انه حان الوقت على كل ما فعلت وانني استحق كل ذلك. هذا ليس صحيحاً على الاطلاق. كوني كاهن يتغلب على جميع المصاعب والعمل الشاق الذي قمنا به انا وامي. للرب ندين بكل شيئ. نحن فقط ” خدام  دون فائدة”. لماذا انا اليوم كاهن؟” لأن الله يريد ذلك. هذا كل ما في الامر. اذا انا لا اعرف ” لماذا” انا كاهن اليوم، فأعرف الطريقة التي يستخدمها الله ليجعل مني كاهن. هذه الطريقة هي انتِ يا امي العزيزة. قبل سنوات عديدة فقدت والدي وانت فقدت زوجك ولكنك لم تتزوجي مرة اخرى. الايمان كان دعمك الوحيد وبهذا الايمان العميق والقوي كرّست حياتك لتربيتنا انا وكارولينا مع كل ما نحتاج اليه.

استطيع الآن ان اتعقب منبع دعوتي تجاه ايمانك القوي الذي ولدت من معاناتك. مع فقدان ابي، قلت ان قوتك الوحيدة هي الرب. الرب الذي يتغلب الالم واليأس، والذي قام من بين الموتى بعد ثلاثة ايام طويلة في القبر! ما هو المقصود من كل هذه المعاناة ؟ لماذا يسمح الرب لشابة لديها طفلين صغيرين مواجهة الفقر وحياة صعبة وهي وحيدة. لأن الرب لدبه رؤية واسعة النطاق، وانه كان يعرف بالفعل عن 21 حزيران 1986.

في المنزل كنت دائماً اتنفس ايمانك وصلاتك: قداس، مذبحة وصلاوات هاتفة… هذا الكم الهائل من الايمان. كيف يمكنني نسيان اجمل صورة للايمان في اسرتنا الصغيرة ؟ كيف يمكن ان انسى هذين الطفلين الصغيرين يقولان صلاة المساء في غرفة مضيئة بالضوء الخفيف، راكعين امام صورة العذراء، راكعين مع امهم على السرير الكبير ينامون فيه معها؟  اتذكر الكثير من المشاهد ولكنك تعرفين جميعها، لذلك ليس هناك من داع في اعادة ذكرها.

فاليوم ليس الوقت المناسب للذكريات بل هو الوقت لننظر امامنا!

هل انا كاهن فعلاً ؟ Augusto الذي كان طالباً في روما يدرس اللاهوت، انه مليئ بالفرح ولكن بالحزن العميق ايضاً! حياة ” والدة كاهن” مليئة بالفرح ولكن بالمخاوف ايضاً. ارجو منك ان تساعديني. المعاناة الكثيرة تخيفني في حين انك خبيرة في ذلك. كوني الى جانبي ولا تتعبي ابداً، اعطيني يدك ولا تفكري ابداً انك فعلت ما فيه الكفاية. كوني دائماً الى جانبي بالصبر والتكتم وبصلاواتك، وتذكري دائماً ان فرح الرب قوتنا. 

مع قبلة كبيرة

الاب لويجي        

لنبدأ بتلاوة نشيد مريم: في كتاب الخروج 15

حينئذ رنم موسى وبنو اسرائيل هذه التسبيحة للرب وقالوا . ارنم للرب فانه قد تعظم . الفرس وراكبه طرحهما في البحر .

الرب قوّتي ونشيدي . وقد صار خلاصي . هذا الهي فامجّده . اله ابي فارفعه .

الرب رجل الحرب . الرب اسمه .

مركبات فرعون وجيشه القاها في البحر . فغرق افضل جنوده المركبيّة في بحر سوف .

تغطيهم اللجج . قد هبطوا في الاعماق كحجر .

يمينك يا رب معتزّة بالقدرة . يمينك يا رب تحطم العدو .

وبكثرة عظمتك تهدم مقاوميك . ترسل سخطك فياكلهم كالقش .

وبريح انفك تراكمت المياه . انتصبت المجاري كرابية . تجمّدت اللجج في قلب البحر .

قال العدو اتبع ادرك اقسم غنيمة . تمتلئ منهم نفسي . اجردّ سيفي . تفنيهم يدي .

نفخت بريحك فغطاهم البحر . غاصوا كالرصاص في مياه غامرة .

من مثلك بين الآلهة يا رب . من مثلك معتزّا في القداسة . مخوفا بالتسابيح . صانعا عجائب .

تمد يمينك فتبتلعهم الارض .

ترشد برأفتك الشعب الذي فديته تهديه بقوتك الى مسكن قدسك .

يسمع الشعوب فيرتعدون . تاخذ الرعدة سكان فلسطين .

حينئذ يندهش امراء ادوم . اقوياء موآب تأخذهم الرجفة . يذوب جميع سكان كنعان .

تقع عليهم الهيبة والرّعب . بعظمة ذراعك يصمتون كالحجر . حتى يعبر شعبك يا رب . حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته .

تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك المكان الذي صنعته يا رب لسكنك . المقدس الذي هيّأته يداك يا رب .

الرب يملك الى الدهر والابد .

فان خيل فرعون دخلت بمركباته وفرسانه الى البحر . وردّ الرب عليهم ماء البحر . واما بنو اسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر .

فاخذت مريم النبية اخت هرون الدف بيدها . وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص .

واجابتهم مريم رنموا للرب فانه قد تعظم . الفرس وراكبه طرحهما في البحر .

ثم ارتحل موسى باسرائيل من بحر سوف وخرجوا الى برية شور . فساروا ثلاثة ايام في البرية ولم يجدوا ماء .

فجاءوا الى مارّة . ولم يقدروا ان يشربوا ماء من مارّة لانه مرّ . لذلك دعي اسمها مارّة .

فتذمر الشعب على موسى قائلين ماذا نشرب .

فصرخ الى الرب . فاراه الرب شجرة فطرحها في الماء فصار الماء عذبا . هناك وضع له فريضة وحكما وهناك امتحنه .

فقال ان كنت تسمع لصوت الرب الهك وتصنع الحق في عينيه وتصغي الى وصاياه وتحفظ جميع فرائضه فمرضا ما مما وضعته على المصريين لا اضع عليك فاني انا الرب شافيك

ثم جاءوا الى ايليم وهناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة . فنزلوا هناك عند الماء .

 الصورة الانسانية والروحانية للأم سانتينا

كما قرأنا في المقدمة من الصحيح أن: ” القدس هي مدينة الصخور المقدسة، صخرة الجلجلة التي تحطمت عندما انتهت حياة السيد المسيح على الأرض، صخرة المسجد التي صعد منها محمد الى الجنّة. الناس من خلال العمى الذي أصابهم، غالباً ما نسيوا الرسالة الروحية العميقة لتلك الصخور معلنين فقط تملّكها أو الهيمنة عليها. لهذا السبب آمنوا أن النجاح والمال والنفوذ يمكن أن تكون الصخرة التي يتمسكون بها في حياتهم. تاريخ القدس، الذي ينعكس بإبتسامة سانتينا الحلوة، يخبرنا أن قوة الانسان الحقيقية تكمن في روحه، في سعيه لحياة تستمر ما بعد التجربة الأرضية ( رلى جبرايل، المقدمة). الجمعة العظيمة 2005. ها أنا في القدس لأمارس طقوس أسبوع الآلآم في أماكن عذاب وموت وقيامة المسيح. من النافذة يمكن أن أرى المدينة المقدسة تحت الشمس الساطعة والمسجد عمر متبهجاً بالذهب. كانت والدتي معي. أراها وهي منحنية على مسودة آخر كتاب لي “الثناء للضعف” (Praise of Weakness) تصححها في غرفة الفندق محل إقامتنا في مركز نوتردام. نحن هنا لقضاء بعض اللحظات من الاسترخاء والتواصل، من التأمل والتحدث عن حياتنا: حياتها البسيط في بلدة برغامو (Bergamo) القديمة، وحياتي النشطة بعض الأحيان والمليئة بالانشغالات العديدة في مدينة روما البعيدة والفوضوية. هذه اللحظات ثمينة بالنسبة إلينا. أمي سانتينا وأنا نثمّن كل لحظة سوياً. نظرة، إبتسامة، وبعض الاحيان القليل من الشجار كافية لكشف قلوبنا لبعضنا البعض. نحن بحاجة الى هذه اللحظات لتحصين أنفسنا، لإسترداد ما نملك من قوة لمواصلة رحلتنا الى الرب.

         الربيع في إزدهار كامل. فجأة أرى أمي تحدّق في الطيرين الصغيرين وهما يأكلان كسرات الخبز التي وضعتها على حافة النافذة: “أب جيجي، أنظر كم هما جميلان! انهما مخلوقان بسيطان مطيعان للرب… نحن هنا في القدس لنصلي خلال هذه الايام المقدسة! وأنا أقرأ صفحة المسودة من آخر عملك. غريب كيف هذا هو أسبوع الآلآم، ولكن اليوم هو 25 من شهر آذار، عيد البشارة. في كتابك نتكلم عن إمرأة أخرى بسيطة جداً تدعى Annalena Tonelli. أنا معجب بهذه المرأة وأحب كثيراً ملاحظتها هذه في السمع!”.

         تقوم أمي وتجلس قرب النافذة التي من خلالها يمكننا رؤية الجدران القديمة للقدس، وتبدأ بقراءة الصفحة التي كانت قد صححتها في كتابي: “دعونا نتذكر ان للانسان قيود. وهو تماماً محتاج الى تدخل الله الفعّال والمجاني. الضوء ليس من هذا العالم، اي انه جاء الى هذا العالم. ولكن من فوق. “… من الذي سيحرر جسدي المحكوم عليه بالموت؟… “… عندما أكون ضعيفاً، عندئذ أكون قوياً. هذا هو المثال الذي تقدّمه المبشرة أنالي تونيللي التي كانت حقاً قادرة أن تعيش وفقاً لهذه الجملة، “انا لا احد، لا احد. بمعنى أنني لا انتمي الى اية منظمة دينية. انا متدينة في القلب. ولكن لم يسبق لي ان انتميت الى جماعة من المصلين. عندما كنت طفلاً كنت أريد أن اكون فقيراً، اردت ان اكون للله فقط. حقاً اردت ان اكون لا احد، دون اية سلطة ودون اية حماية. اريد ان ابقى هكذا، هذا هو معنى حياتي”.

تخلع امي نظاراتها وتنظر الى الطيور التي تنقر بكسرات الخبز دون توقف، ثم تنظر في عيني وتقول: المريم العذراء وهذه المرأة عظيمتان في ضعفهما! انا اتفق مع Annalena وربما لقد عشت بنفس الطريقة حتى الآن. انا لا احد، انا اعيش حياتي وحيداً في البيت وفي الصمت، مثل  Annalena: “انا اعيش كأنني لا احد، دون احد. دون اية سلطة، دون اية حماية. اريد ان ابقى هكذا. هذا هو معنى حياتي”. اذهب الى امي واقبل جبهتها واداعب يدها واقول: “امي. انت تعرفين انني دائماً بجانبك من قلبي”. “بالطبع انا اعلم! ولكن يسوع والمريم العذراء هما دائماً الى جانبي، فأنا لست ابداً لوحدي. انهما لم يتركاني ابداً، بالتالي انا هادئ معهما!”.

         “لنكف عن القراءة ولنستعد للخروج. في صباح هذا اليوم وفي هذه الشوارع من القدس القديمة، سنعيش مجدداً درب الصليب. هذه المدينة القديمة مليئة بالحجّاج القادمين من اماكن بعيدة للاحتفال بعيد الفصح”.

” هذا صحيح، ابونا جيجي! كنت على وشك ان انسى. اليوم هو الجمعة العظيمة، ويجب علينا ان نشارك في درب الصليب”. الطيور ترفرف بعيداً بسرعة، ونسمة جديدة تأتي من النافذة المفتوحة، في حين نسمع المؤذن يدعو المسلمين لأداء صلاة الجمعة.

وبعد ساعة، بينما اسير في شوارع القدس الرائعة، اتذكر المقطع الذي اعدت لي امي في درب الصليب. انظر الى امي وهي تتنفس بصعوبة فوق المنحدر. هي تركز وعينيها المليئتين بالنور الداخلي. تبتسم لي وانا افكر بإستعارة نص تونيللي وهي تصف حياتها الداخلية جيداً: “اعيش مثل لا احد، دون اي احد. دون اية سلطة، دون اية حماية. اريد ان ابقى هكذا. هذا هو معنى حياتي”. من كان يظن ان اليوم المميز مليئ بالفرح والسلام تنذر بدرب صليب سانتينا المؤلم، والتي كانت ستعيش بعد بضعة أشهر- درب الصليب الذي اصفه في هذا الكتيّب؟

” كارولينا، هل تأخذني الى الكنيسة؟” ( الثلاثاء 30 آب 2005، الساعة 7.30 مساء). هذا اول مكان تطلب فيه امي من اختي ان تزورها متى تخرج للتجول اول مرة وهي لا تزال على الكرسي المتحرك وتحت العناية المركزة. “كارولينا، خذيني الى الكاتدرائية”. هذا طلبها الثاني وبصوت ضعيف بسبب القصبة الهوائية. في اليوم التالي ( الاربعاء 31 اغسطس 2005، 7 مساء) وهي نائمة في سريرها في العناية الفائقة، مع الأكسجين في انبوب القصبة الهوائية مرة اخرى، وذلك بسبب انتكاسة سببها انكفاء الصفراء. امي سانتينا تحاول ان تصعد بالقوة القليلة لديها. ” امي، اين تريدين ان تذهبي في هذا الوقت من اليوم؟”. ” يجب ان اذهب الى القداس”. ” ولكن الكنائس مغلقة الآن!”. ” ولكن يجب ان اذهب الى القداس”. “فلنصلي بالمسبحة اذاً. في نهاية زيارتها، كارولينا تركت امي والمسبحة في يدها، حتى لو أنها لم تعد لديها القوة لتحرك اصابعها على خرزات المسبحة لكن يمكنك ان ترى انها تعرفها تماماً.

اتمنى لو كان لدي ايمان امي سانتينا! ايمان جذوره قوية في داخل قلبها وهي قادرة على ان تعيش التجربة حتى في لاوعيها، حين عقلها لا يسمح لها باعادة ترتيب افكارها، وحيث المكان والزمان غير واضحة. في هذا الضباب الكثيف، امي كانت قادرة ان ترى الدليل الثابت في حياتها وهو ايمانها القوي. والذي لا يتزعزع وغير قابل للتدمير، والذي قد وجّه كل لحظة من حياتها. هذا كان الحال عندما توفي زوجها سنة 1963 حين قررت عدم الزواج مجددا وتربية اولادها بنفسها من خلال عملها الشاق. وهذا هو الحال عندما كانت تذهب الى الطابق السفلي في الساعة الخامسة صباحاً من كل يوم لتنظيف الأرض في بنك () وهي تغني اغاني للعذراء. كنت في الخامسة من عمري عندما نزلت الى مكاتب البنك وسمعت اغنيتها من بعيد … إسمكِ حلوة جداً .

بإيمانها العظيم كرستني الى الله حتى قبل ان اولد وعاشت اجمل يوم في حياتها: يوم سيامتي ككاهن. وبالايمان ذاته ذهبت الى عرس ماريا كارولينا وهي تعيش حياة هادئة منعزلة لسنوات عديدة، مسرورة بمجون أحفادها عندما يلعبون ومن خلال الزيارات التي اقوم بها نهاية الاسبوع.

وبواسطة ذلك الايمان العظيم ربت مارتينا ودانييلا وباولو الذين تعلموا صلواتهم منها ومنها كانوا يأخذون الحلويات يومياً قبل الذهاب الى المدرسة.

واخيراً بإيمانها العميق تمكنت ان تكرس وقتها للعمل الخيري وللبعثات ايام الاحد وشاركت في الاجتماعات الشهرية التي كانت تجمع اقارب رجال الدين. ومن خلال هذا الايمان نفسه كانت تذهب الى دير بنديكتين للقديس سانتا غراتا حيث اصبحت اختاً علمانياً تحت اسم سانتا-لويجانا!

في الايام الاولى “للصحوة” التدريجية، عندما كانت تستعيد الوعي، والوقت والمكان لا يزالان غير واضحتين وهي في العناية الفائقة، حيث الاضواء الاصطناعية والعلاج الطبي يعلقان الايقاع الطبيعي للنوم واليقظة ويوقفان مرور الايام والاسابيع، اعربت امي سانتينا عن رغبتها في الذهاب الى الكنيسة مرتين! لم تطلب من اختي ان تأخذها الى بيتها او مطبخها او غرفة نومها. بل فضّلت الكنيسة على بيتها، لدرجة اتساءل ما ترى منزل سانتينا الحقيقي. في منزلها امي تفضل ان تصلي قرب النافذة الصغيرة خيث تتمكن ان ترى بازيليك سانتا ماريا-ماجيوري وتتخيل حضور السيد المسيح في خيمة الاجتماع.

وذاك الصباح الذي كانت امي فيه ستخضع للعملية، شاركت في القداس مع عمي الاب لويجي، في جناح الجراحة القلبية في المستشفى وامي تلقت القربان. وخلال القداس قرأنا المقطع عن اخراج اليهود من العبودية في مصر ورتلنا ترنيمة النصر الرائعة للExodus– 15: “سوف اغني للرب، لأنه في غاية المجد. الحصان وفارسه تم دفعهما نحو البحر. الرب هو قوتي واغنيتي”. في عظتي القصيرة علقت كيف كانت امي على وشك عبور البحر الاحمر لتتحرر من مرض القلب البغيض: كان عبور البحر الاحمر صعباً. بالفعل، والبحر مليئ بالدم، كالدم المستخدم خلال العملية، والدم في العديد من الجروح كانت قد عانت منها. بالنسنبة لأمي، شواطىء هذا البحر الغدار كانت صلواتها. كانت تصلي قبل بدء العملية في 18 تموز/يوليو 2005، وصلّت عندما بدأ قدميها يلمسان الشاطئ في 30 أغسطس 2005. امي سانتينا لم تكن بعد على الارض الجافة، اذ كانت ستقضي اشهر طويلة من المعاناة، من اكثر المخاطر جدياً في ذلك الوقت: كان اكثر من خمسين يوماً التي خلالها خضعت المرأة للجراحة القلبية القاسية، فشل في القلب، غسيل الكلى، عملية اخرى، القصبة الهوائية، تغذية من خلال انبوب تُسمى PEG، العديد من الافرازات داخل الاوردة بالاضافة الى معاناة من تعفن الدم وقرحة.

بقيت امي في المستشفى لمدة تسعة اشهر طويلة من 8 تموز/يوليو 2005 الى 10 نيسان/ابريل 2006، بعد ان ظلت 109 يوماً في ظل عناية الدكتور لوريني الفائقة. ارسلت امي الى مستشفى Maugeri Hospital في Gussago، بالقرب من بريشيا لاعادة التأهيل. كانت على قيد الحياة ولكن ضعيفة جداً. العناية المكثفة للدكتور Massimo Benigno وفريقه من الاطباء والممرضات، جعلوها اقوى وبحالة مستقرة. تركت امي هذا المركز المتخصص في 30 كانون الثاني/يناير 2006 لبدء اعادة التأهيل الجسدي في دار التمريض Gleno في برغامو. التجربة في هذه العيادة لم تكن جيدة. مع ان امي احرزت تقدماً ملحوظاً. حتى لو لم تكن امي مكتفية الذات مثل السابق، عادت الى منزلنا في المدينة القديمة يوم الاثنين 10 نيسان/ابريل 2006، حيث اعتنت بها Fabiola الفتاة البوليفية الطيبة البالغة 31 عاماً. والآن مع Olinda امرأة رائعة من البيرو، كارولينا وانا نريد ان نشكر كثيراً.

لقد كان هذا فترة من الألم والمعاناة التي خلالها اختي وانا شعرنا معنيين ومشاركين بعمق. غالباً قد شعرت مستبعداً من قبل اناس عديدين اعتقدت انهم اصدقاء لي ولكن آخرين اعطوا لنا دعمهم. في هذا الكتيب اريد ان اشكر جميع الناس على سبيل المثال رلى لمقدمتها المؤثرة في الطبعة الثانية. هذا الكتيب فرصة للتطهير الداخلي. حيث ان امي هي متفوقة من خلال خبرتها وحياتها. زمن معاناتها كان مهماً ومؤثراً الى درجة لا استطيع ان اخاطر نسيان كم عانت وتعذبت.

لهذا السبب كتبت هذا الكتيب حيث جمعت 5 مذكرات من الصلاة والتأمل اعددتها لأصدقائي. هذه المذكرات لا تشمل كل الاشهر التسعة التي امضتها امي في المستشفى بل الوقت الذي امضت في Ospedale Maggiore في برغامو. في اوقات العصيبة اطلب الصلاة لجذب الانتباه، وقد كتبت بعض التوجيهات التي تحتوي على خبرة الاحداث المكتسبة، وعلى الواحد والثلاثين رسالة التي كتبتها لي امي، والثلاث وخمسون جملة تركت لي في الكتاب المقدس حين كانت في العناية الفائقة.

وبالتالي هذا الكتيب نوع من الحوار بين امي وبيني. ” امي العزيزة” هو عنوان الجزء الاول، الذي يحتوي على معلومات حول عملية قلبها، حيث الفصل الاول يشهد عطف يوحنا بولس الثاني على قلب امي الممزقة، والرسالة التي كتبتها في يوم سيامتي. في الجزء الثاني تحت عنوان ” عزيزي الأب لويجي” بات دور سانتينا للتكلم: في مجموعة رسائل وجمل ارادت توجيهها اليّ اولا كطالب لاهوتي ومن ثم ككاهن. والنتيجة هي مجموعة رائعة تحكمها صورة امرأة بسيطة ، لديها قوة داخلية متفوقة ونادرة، قادرة على تثبيت حياتها على شواطئ الصلاة الآمنة، الصلاة ذاتها التي تفتح وتغلق اكثر مراحل عذابها من وجودها في المستشفى. ويحوي الكتاب تأملات واسعة عن معنى تلك المعاناة وعن قيمة الحياة المشعة بنور الايمان والامل والاحسان. وفي الختام، سوف نكتشف قيمة التعبير التوراتي ” الله صخرة قلبي” .

 احتضنك وازرع قبلة على خدك

 جراحة قلب امي

18 تموز/يوليو 2005 – الساعة الثالثة – 8.40 بعد الظهر

 القلب هو المكان الذي فيه سر الانسان يسمو في سر الله.

 ” اليوم عشت اهم يوم في حياتي عند يوم سيامتي: رأيت قلب امي! القلب الذي اطعمني لسنوات طويلة! متأثر وممتن للذي خلقني ولمهارة الجراحين! لا أستحق! مندهش وكامل الامتنان! اشكرك لأنك قريب مني! المعركة كانت صعبة، لكن على الرغم من ضعغي لقد فزت (الساعة– 19 يوليو 2005 )”. أبدأ هذه الصفحات بهذه الرسالة التي نسختها من هاتفي الخلوي ، لأخبر أصدقائي ونفسي أيضا عن التجربة الرهيبة ولكن الرائعة في الوقت نفسه، عندما شاهدت الجراحة القلبية لأمي في غرفة العمليات.

لماذا أدخل الى غرفة العمليات فأنا راهب ولست طبيبا؟ لماذا اراقب واكون شاهدا، واشارك في هذه العملية الصعبة، عندما كثير من الناس والاصدقاء حذروني من هذا الاختيار؟ صبيحة يوم 18 تموز، في اهم يوم في حياتي بعد يوم رسامتي، اطرح على نفسي دائما السؤال ذاته… رسالة اخرى منسوخة من هاتفي الخلوي تكشف عما شعرت في صباح ذلك اليوم: ” اليوم سأبذل قصارى جهدي واكافح واعيش كل لحظة بكامل طاقتي”. أدين ذلك لأمي ولنفسي. الخوف كبير لكن استطيع ان اتغلب عليه اذا كنت حازما. انها صراع رهيب مع ذاتي وانا لوحدي لأن في العزلة المطلقة فقط يمكن ان تجد نفسك! سأدخل غرفة العمليات وسأبقى هناك لأن اليوم هنا هو مكاني. المكان الذي ستعاني فيه امي. وليس في الكنيسة لأن الكنيسة الحقيقية هي المكان حيث توجد آلآم. اختي تغسل والدتي. كنت قد شربت فنجني قهوة (  18 يوليو 2005، عند الساعة —). هذه السطور المؤثرة تعكس مشاعري قبل الاجتماعات التحضيرية مع رئيس قسم التخدير الدكتور – ورئيس الجراحة القلبية في برغامو – الدكتور –. كنت افكر عن آلآف المعاني التي تنسب الى قلب الانسان من الناحية الوجدانية والفلسفية، حتى اللاهوتية والتوراتية.

 في هذا الصدد، اختار التعريف للقلب الذي قدمها العالم الالماني اللاهوتي الكبير Rahner Karl: ” القلب هو واقع حميم موحد الذي يثير الغموض ويقاوم كل تحليل. القانون الصامت اقوى من كل تنظيم او استغلال تقني للانسان. القلب هو المكان الذي فيه سر الانسان يسمو في سر الله: ؟؟ القلب يعني الحب، الحب غير الاناني، الحب الذي يفوز ولا يبحث عن المقابل، والذي ينتصر في الضعف، ويعطي الحياة عندما يقتل”. كنت على وشك ان ارى قلب امي. ليس اي قلب، لكن القلب الذي اطعمني عندما كنت اعيش في داخلها كجنين. القلب الذي بكى وضحك وقلق علي، القلب الذي انتظر  بإستمرار لعودتي من روما من النافذة الصغيرة في منزلنا في البلدة القديمة في برغامو. القلب الذي اجد فيه حالي، حياتي ووجودي… انظر الى قلب امي بإعجاب لأنها تحفة، وارى عظمة الله في خلقه. الاستغراب والدهشة والصمت تملأ قلبي واحتاج ان افهم ما يجري. طريق المعاناة هو الطريق الذي كان علي ان امشي لكي استطيع ان اتأمل في قلبها. كنت سأرى قلب امي البالغة ثمانين عاما لأنها كانت مريضة وتحتاج الى علاج طبي وجراحي. يا للغرابة. يجب متابعة طريق المعاناة لكي تكتشف قلبك: يسوع على الصليب اظهر لنا قلبه، قلب ممزق بالحب، والمعاناة ايضا! ما كنت استطعت ان انجح لوحدي. لكي يحصل كل هذا، كان المطلوب رجال ذو كفاءة مهنية عالية ومهارة تقنية، لديهم قلوب مليئة بالكرم والحب: قلوب اخرى فقط يمكنها ان تظهر لي قلب امي. قلب حياتي! باولو ولوكا، الطبيبان Ferrazzi و Lorini قاما بهذه المعجزة.

كاهن في غرفة العمليات؟

لا يمكنك ان تنظر الى قلب امك بنفس الطريقة التي تنظر الى حقائق اخرى. هذا الاعجاب نحو سر قلب الام كانت هدية لي من الله لكوني في خدمته منذ عشرين عاما. وانا افكر في الماضي وجدت تجربة مماثلة ربما تحضيرية للتي عشت في 18 يوليو 2005 من الساعة 3 بعد الظهر الى الساعة 8.44. في سنة 1986 كنت كاهنا شابا اكمل دراستي كطالب داخلي في المعهد البابوي، اخترت ان امارس الكهنوت في المستشفى الكبير San Giovanni القريب من المعهد. وهناك كسبت تجربة العيش مع واقع غرفة العمليات مرات عديدة. وهذه الصفحات التي أكتب ولدت قبل نحو 20 عاما. في بداية ممارستي ككاهن، طلب مني ان اشاهد عملية على الجمجمة… كم غريب: العقل والقلب، العضوان الحيويان، غنيان بالمعاني الهائلة! هذا ما كتبت عام 1986 . لفهم تجربة 18 يوليو 2005، يجب فهم العملية التي علمتني كم كان لها تأثيرا بالغا على حياتي والتي اعدتني لأشاهد العملية الجراحية لأمي.

 ” اضواء قوية تنير منطقة العمليات محاطة بالشارة الخضراء المعقمة التي تمزج باللباس الجراحي. من خلال القناع الذي يغطي فمي، استطيع ان اشم رائحة المطهر الخفيفة ممزوجة مع الرائحة القوية لآلة الصدمة الكهربائية. التنفس الايقاعي لآلة المخدر يغرق اصوات المباضع. في صمت غرفة العمليات، الجو هادئ ونقي. الطبيبان Colantoni و Avitabile ينفذان عملية جراحية على الجمجمة. لا بد لي ان اشكرهم على عطفهم وصداقتهم لانهم قاموا بإرشادي في كل مرحلة من العملية. اعجب بمهارتهم المهنية، ينضم لها الثقة بالنفس والدقة. بعد التفسير الواضح الذي قدمه لي الدكتور Avitabile عن نوع العملية، وصف لي الدكتور Colantoni كل مرحلة من مراحل العملية. غريب ان اشاهد عملية كهذه: يشعرك كأنك في مكان مقدس مركزها الانسان. مكان مبتكر ليس لعبادة اي بطل او رجل قوي وشجاع، بل لشخص عاجز ينزف. كاهن في غرفة العمليات؟ ماذا يفعل هناك؟ هو يتعلم! يتعلم ما هو الانسان. في ذلك المساء اكتشفت عن الطبيعة الهالكة للانسان وفقره. رأيت المريض كإنسان عاجز وضعيف. اتساءل واقول: انظر كم انت صغير وضعيف! كل هذا شعرني بالانزعاج، ولكن في الوقت نفسه استطعت ان افهم ان هذا الانسان نفسه يؤدي عملية حساسة كهذه. وهكذا اكتشفت عظمة الانسان. انه امر استثنائي رؤية الفقر والضعف تجمعهما العظمة والقوة  في غرفة العمليات: تشعر بنوع من التناقض الذي يتطلب تفسيرا. انا ايضا اهتم بالانسان ربما بطريقة مختلفة ولكن بنفس الأهمية: مثل الجراح، اختبر هذا التناقض بين العجز والعظمة. هذا التناقض يتطلب تفسير يقدمه لي رجل غريب… رجل يدّعي انه هو الله، الذي ولد في اسطبل… يتحدث عن الحياة الابدية ويموت على الصليب… لذلك هو رجل يحب التناقض يختبره ويجسّده: يسوع المسيح. ثم ادركت انه من المستحق ان اؤمن بالانسان حقا واكرس له خدمتي كما رأيت في عيون الجراحين في ذلك المساء. لا يهم كيف. كل ما يهم هو فهم ان معنى الحياة يكمن في هذا التناقض  وكل انسان ضعيف يطالب بالخلود واللانهاية ( غرفة العمليات لإصابات الرأس في مستشفى San

Giovanni عام 1986).

 اشكر الرب على حصول امي على العناية المتطورة والتقنية:امسك يد امي وهي على السرير تتجه نحو غرفة العمليات. ثم كان علي ان اتركها لأغير واغسل. علي ان اخلع ملابسي، واتركها في خزانة وارتدي قميص بأكمام قصيرة وسروال اخضر وجوارب بيضاء وقيود. وضعت قبعة جراحية وقناع. ثم هناك طريقة منهجية لغسل اليدين والاكواع. الاشارة تحت —- لا تقل عن ثلاث دقائق. قبل الذهاب الى غرفة العمليات، ارتديت ثوب معقم فوق ملابسي الجديدة. اجد امي في الغرفة المقابلة لغرفة العمليات، نمزح معا ونجد الوقت الملائم لنقول السلام عليك يا مريم، ونصلي للملاك الحارس. العمليات التحضيرية كانت قد بدأت حتى لو انها لم تكن على علم بها: بدأ التخدير يعطي مفعوله ونتائج المرحلة الاولى لفحص الدم كانت قد وصلت ( خلال العملية سيفحصون دمها مرات عديدة)، مشيرة لأطباء التخدير الادوية التي يجب استخدامها. ينضم الينا لوكا، المشرف على عملية التخدير ليشجعنا. هو الذي سيكون مسؤولا في الاشراف على العملية التخديرية. عملية غير معروفة وغير محددة، ولكن لها اهمية كبيرة. الدكتور Lorini سيدير هذه العملية الطويلة من ناحية الادوية التي ستعطى بإستمرار وبحذر شديد ( بقدر كبير من العناية) لحفظها تحت التخدير.

 وهناك عملية مثالية تنتج عن نوع من التكافل بين الجراح وخبير التخدير، وهذا التكافل منسق بين رئيسين موهوبين مثل Lorini و Ferrazzi . تدخل امي في نوع عميق ويدها يستريح في يدي. يمر نصف ساعة و Luca ينظم التخدير. عليهم ادخال الانابيب وشغل الجهاز الذي يقيس ضغط الدم والقلب، ويؤمن التنفس الاصطناعي. في الوقت نفسه، تصل قارورة الدم التي ستستخدم: يجب فحص العدد، موعد الانتهاء وفئة الدم.

 في هذه المرحلة التحضيرية، الاحظ ان غرفة العملية مزدحمة وهي تشبه بذلك خلية النحل، حيث كل عامل يجب ان يؤدي واجبه دون الوقوع في خطأ. ألاحظ المسؤولة عن الجناح Cristina Pifferi تراجع كل شيئ بعناية كبيرة، تشجع وتصحح اية عيوب.ان فريق التخدير يستخدم معدات متطورة تمكّن Luca ليعرض عليّ الصور الاولية لقلب امي سانتينا والقصور في الشريان الذي كشف عنهم الدكتور Valsecchi. من المدهش كيف أنّ الجراحة والتخدير وعلاج الالم والعناية المركزة تطورت خلال العشرين العام الاخيرة. الصور غير عادية: تدهشني في البداية، وهذه الدهشة ستزيد خلال العملية الصعبة ولكن المتقنة التي تقوم بها جماعة من المهنيين المختصين.فريق آخر من التقنيين المختصين يعدّون جهاز آخر سيحتاجونه خلال العملية للدورة الدموية الخارجية لدم امي. هؤلاء التقنيون سوف يبقون المريض على قيد الحياة خلال الساعتين واربعين دقيقة المتتالية. اطلب من الله ان يدير ايديهم وعقولهم.فريق آخر، بقيادة الدكتور Ferrazzi، يتألف من جراحي القلب الذين سيبدأون العملية خلال الدقائق القليلة: المساعد الاول هو Samuele Pentiricci طبيب شاب وعازم، والدكتور Costantin Dinieka الذي على وشك ازالة العرق من القدم من اجل تجاوز الشريان التاجي. ويساعدهم ممرضة تدعى Anna Maria Urtis التي ستقوم بمساعدة الرئيس اثناء العملية الثانية بين 29-30 تموز 2005، (بعد ان توقف قلب امي)، اذ هي سريعة في فهم الاحتياجات الفورية للجراحين واعطاءهم ما هو ضروري للعملية.

بالاضافة الى هؤلاء الاشخاص الثلاثة، هناك بعض الممرضات، من بينهم  Maria

Berardelli التي تأتي وتذهب عند الضرورة. اطباء اخرين وممرضات يعملون في الخارج. عليهم فحص نتائج فحص دم امي والتي يحتاجها طبيب التخدير من اجل عملية تخدير امي. كما انهم يعدون ويعتمدون السكاكين. هذا العدد الكبير من المختصين مجتمعين حول قلب امي، في حين ان الكثير من الفقراء ليست لديهم اية عناية طبية، ويموتون من الجوع. اشكر الله على ان امي قادرة على الحصول على هذا النوع من العلاج الدقيق والمتطور. نحن حقا لا نستحقها، انها هدية من العناية ومن بلدتنا الجميلة برغامو. 

 انا مليئ بالاعجاب واتساءل كيف الخالق جعل تحفة من كل واحد مناغرفة العمليات جاهزة و Samuel يبدأ بالجراحة، في حين ان Costantin يشق الساق لازالة العرق الاسفين. العملية تهدف الى وضع ثلاث مجاري جانبية على تكلس الشريان التاجي واستبدال الشريان الأورطي المكلس ايضا. الدكتور Ferrazzi هو الذي سيؤدي العملية، ولكن، قبل هذا، الجراحون عليهم العمل لمدة ساعة واحدة. عيون مركزة وايادي ماهرة تقطع الاوعية الدموية التي تنزف، تعزل الشريان الثدي وتحضّره، للقدرة على استخدامه خلال العملية. مرة اخرى كما قبل عشرين عاما، السكون يسيطر على غرفة العمليات، ويبدو ان الصمت هو الذي يسمح لي ان انظر الى القلب! شيئا فشيئا، تحت ايادي Samuel الماهرة، اللحم والقفص الصدري ينفتحان ليكشفا عن الرئتين اولا وبعد ذلك القلب.اشعر بقوة كبيرة وبأحاسيس عميقة وكل امتنان شديد تجاه هذا القلب القيم الذي غمرني حبا من اجلي. انه قلب مريض وارم من كثرة الجهد وفن الحب الذي اعطى لزوجها، لأولادها واحفادها وكل من التقى بها كل يوم في الشارع، الفقير والغني والمبشرين، ولكن قبل كل شيئ ابنها الكاهن: ” لويجي!” اتذكر ما كتبتها لي في رسالة قديمة ارسلتها في 11 اكتوبر 1981، حين وصلت الى روما لأكمل دراستي: ” احبك كثيرا وانت دائما الى جانبي، وخاصة عندما اتلقى الله في قلبي، اتحدث اليه عنك وارجو منه الدعم المعنوي”. في تلك المناسبة كشفت امي قلبها لي بطريقة مختلفة! اشكر الله لأنه اهداني امي، ما كانت وما تزال بالنسبة لي. تشبه غرفة العمليات مأوى فيه قلب يخفق من اجلي. اليوم كنيستي ورعيتي هنا. كما كتبت في نص رسالتي:” هذا هو مكاني اليوم، المكان الذي سيعاني فيه امي، وليست في الكنيسة، لأن الكنيسة الحقيقية هي حيث هناك الالم والمعاناة”. هناك تناغم تام يسيطر في اجسادنا، الذي يبدو كأنها اعجوبة. القلب يخفق بشكل متوازن، والرئتان تعطيان الاوكسجين للجسد: ارى انسجاما رائعا، الذي ربما يكون اجمل اشارة للانسجام الروحي الذي يعطي لأمي الهدوء ومعه تلتقي الاخرين في حياتها المليئة بالصلاة والصمت والعزلة. ليسمحني رب الحياة ان اعيش بضعة سنوات مع عونها ونصائحها وقوتها.

 بينما اقوم بصياغة هذه الصلاة، Paolo يدخل الغرفة حاملا صندوق يحتوي على النظارات والعدسات الخاصة التي ستستخدم اثناء هذه العملية الحساسة. ويبدأ بالعمل مباشرة. يعمل على ملمترات من الانسجة، ولا يمكنه ان يخطئ بسبب التكلس في الشريان. انه عمل دقيق يستدعي الصبر، حيث الغرزات تكاد تكون غير مرئية : حتى سعال، وهي خطوة يمكن ان تسبب ضررا لا يمكن اصلاحه. تركيزه قوي، وخبرته ومهارته المهنية لا تفشلانه. يعمل بمنتهى الدقة وبهدوء تام. وشيئا فشيئا اركز عليه. لقد وصلنا الى المرحلة الادق في العملية. بعد وضع ثلاث مجاري جانبية على التاجية عبر الدورة الدموية الخارجية، Paolo يفتح القلب ليستبدل الصمام الاورطي المكلس.

 قلب أمي المفتوح يملئني بالدهشة والاعجاب. اشعر بالاعجاب المطلق لعمل Paolo: هذا العمل الدقيق، والهام والغير معروف لمعظم الناس، لأنه مختبئ في مأوى غرفة العمليات. الامور الاجمل والاعظم تحدث في الصمت والعزلة، لا يحبون “الدعاية”. هذا يحدث في حياة مليئة بالايمان. في حياة امي ايضا، حتى وهي صغيرة ومتواضعة ولكنها كبيرة في عيون الله.

تسكن الحياة في القلب

قبل سنوات، قد شهدت عملية جراحية على الدماغ: موضع الذكاء والارادة. وقد قمت بمقارنة بين ضعف المريض وقوة جراح الاعصاب. في مقارنة العملية التي نفذها Paolo على قلب امي المريضة، كانت بمساعدة جرّاح القلب الذي يملك قلبا سخيا والذي مع خبير التخدير، كان يضع كل علمه واختصاصه ليشفي قلب امي. المهارة والاتقان لا يمثلان شيئا اذا لم يحركهما السخاء الموجود في القلب.السخاء والعطاء من قبل هؤلاء الناس قد ادهشني بشكل كبير، وادركت ان هذا العطاء مع الكفاءة اشعراني بالثقة، وتأكدت انهم يعملون كل ما يمكن لمساعدة امي. كنت قد دخلت الى غرفة العملية مليئ بالشكوك والمخاوف، ولكن الآن كنت على وشك مغادرتها مفعما بالامل والسلام. حينها شعرت انني كنت قريبا من امي في هذا الوقت العصيب، في حين انها كانت قريبة مني خلال بعد الظهر من ذلك النهار بطريقة عميقة وحميمة، لم اكن اتصور كان من الممكن ان يكون. شعرت قلبها قريب من قلبي، بنفس الطريقة التي كانت تنتهي رسائلها بالجملة الكاشقة عن قلبها كأم. جملة وجدتها في رسالة قديمة ولا تزال تؤثر فيّ بعد كل هذه السنوات العديدة: ” اضمك الى حضني وازرع قبلة كبيرة على خدك، أمك” (8 ايار/مايو 1983 – برغامو).

 كنت اظن انني قريب من هؤلاء المهنيين. ولكن بعد ظهر ذاك اليوم، هؤلاء المهنيون أنفسهم علموني من خلال العزلة والتواضع انهم قادرون على ان يكونوا قريبين من كاهن قد دخل الى غرفة العمليات باحثا عن مفتاح الحياة. في رواية تدعى Momo ، قال Michael Ende أنّ ” الحياة تسكن في القلب”: في ذلك اليوم بعد الظهر، قد سمح لي في ظروف غامضة من رؤية منبع حياتي، اي قلب امي وفهم ان لكل عمل مهم دوافعه في القلب.

كانت العملية ناجحة ولكن، بعد ايام قليلة، فشل في قلب امي ادخلها مجددا في العناية المركزة، اي يعني حتى يومنا هذا. لم اكن اعرف ما ستكون نتيجة هذا المرض. صليت الى الله ليحفظ قلب والدتي لسنوات عديدة، وكنت آمل ان اتمكن من قراءة هذه السطور وانا معها. هذه السطور نفسها عهدتها لأصدقائي، وانا متأكد أنهم سيساعدون الاخرين كذلك، لايجاد مفتاح الحياة الذي يعطي معنا لكل افعالنا، وهذا ما يُسمّى القلب! ( الاثنين 1 آب 2005).   

            

 

 

        عطف يوحنا بولس الثاني على قلب امي الممزقة

2 آب 2005 – برغامو، روماالاطلاع على احداث تلك الايام ببطء وتمهل

لقد مضى اكثر من عام منذ 2 آب 2005، سنة وخمسة اشهر تحديداً. حتى لو كنت مصمما على ” ترك اثر” عن كل شيء حدث، الاحداث المرتبطة بمرض امي والتي كانت مغامرة رهيبة ولكن رائعة في الوقت عينه. اردت غالبا ان اكتب عن هذه القصة. القصة التي على وشك ان اكتبها يجب ان يقرأ في الضو المناسب، وليس قراءتها بمثابة معجزة، لنتمكن من اعطاء التفسير الصحيح والمتوازن عن الحقائق، بدون مخاطرة إفساد ما حدث بالمعاني المستبعدة. علينا ان ندخل على احداث تلك الايام “كأننا على رؤوس اصابعنا”، لكي نرى خير الله.، معاناة امي الكبيرة، صلاة الراهبات، وسخاء الاطباء الموهوبين وظل يوحنا بولس الثاني وعطفه. كتب يوحنا بولس الثاني: ” بالطبع فهناك ايادي خفية تحملنا، بينما نبحر القارب على طول مسار الاحداث بالرغم من كثرة الكثبان الرملية”. ( المصادر والايادي من الاعمال الادبية المكتملة ، Karol Wojtyla).

في تجربة امي، ايادي يوحنا بولس الثاني حملتنا لتخطي اللحظات الصعبة، التي كانت بمثابة الكثبان الرملية. في حين انه من السهل الكلام عن كل الحقائق الاخرى لأنها واضحة، غير انه من الصعب جدا الكلام عن الحضور الخفي غير المرئي ليوحنا بولس الثاني خلال مرض امي. انه حضور لا يمكن ان نرى او ندعمه بالوثائق. احب فكرة ظله الطيب للبابا الراحل وعطفه الذي كان يُهدئ آلام امي الحادة.

 

امي كانت دائما تتحدث عن البابا Wojtyla بإحترام كبير.

كانت لسانتينا الفرصة للقاء الاب الاقدس، البابا يوحنا بولس الثاني ، بضعة مرات. مرتين على الاقل: مرة في قصر Gandolfo ، عندما كنت طالب القواعد في معهد تعليم اللهوت في Bergamo ، وذلك في آب 1987. ومرة اخرى في شقته في القصر الرسولي عام 1995، بعد تقديم واحد من كتبي. الصورتان التي لا تزالان معلقتان في البيت تشهدان على هذه الاجتماعات: الصورة عن اللقاء الثاني في اطار فضي . كانت امي تتحدث عن البابا Wojtyla باحترام كبير، و كانت دائما تطلب مني ان اطيعه، كما جاء في الرسالة في 21 تشرين الثاني 1982: “تعهّد الاطاعة والمحبة والاحترام للبابا الاقدس، أكثر فأكثر”. عند وفاته، Santina تأثرت كثيرا وشاهدت جنازته بألم ومشاركة كبيرة، وكانت تعتبره قديسا.

 اذا القلب لم يخفق بإنتظام في غضون 48 ساعة ، يجب ان نستعد للأسوأ!

ولكن اين يمكن ان نرى ظل خادم الله خلال الاحداث الحزينة لمرض امي؟ من اجل فهم ما حدث من المهم اعطاء تفسير موجز عن تلك الايام في المستشفى. خضعت للعملية الجراحية في القلب يوم الاثنين 18 تموز 2005. العملية كانت ناجحة ولكن خلال الليل ما بين 22 و23 تموز 2005، عانت من فشل رهيب في القلب، ربما ناتج عن تعقيد في الغدة الدرقية. وهكذا بدأ طريقنا الى الجلجلة. الازمة القلبية العنيفة جعلت قلبها يدق مرة اخرى ولكن هذه المرة مزقت جدران قلبها، التي كانت ضعيفة بعد ان خضعت لعملية خطيرة قبل ايام قليلة. خلال الاسبوع ما بين 23-30 تموز حالة امي ازدادت سوءا. كان قلبها محاصرا بالجلطة الدموية. الفحص بأشعة فوق الصوتية كشف عن وجود دم متجمد الذي لا بد من ازالته بسرعة. في ليلة 30 تموز عاد بسرعة Paolo Ferrazzi الى Bergamo واخذ امي الى غرفة العمليات محاولا ازالة تجلط الدم الذي كان يهدد بقتل قلبها. المسؤول عن جراحة القلب اتصل بي في الساعة الثانية صباحا يوم الاحد: ” ابونا جيجي، العملية كانت ناجحة، الجراحة اجريت بشكل تام، ويمكن للقلب ان ينبض بشكل صحيح. لقد تفحّصت المجاري الثلاثة ايضا، انها تخفق بشكل جيد جدا وانها تعمل بشكل صحيح”. بعد ايام قليلة، قالت لي الممرضة Anna Urtis التي كانت في غرفة العمليات، ان الدكتور باولو  قد بذل قصارى جهده في تلك الليلة، وخاط اخر جرح على بشرتها. الاطباء حقا وضعوا كل كفاءتهم وسخائهم في العملية! ولكن… الوضع لم يكن على ما يرام.

بقية المكالمة الهاتفية في منتصف ليل 31 تموز لم تكن مطمئنة اطلاقا. تابع باولو قائلا: ” ابونا جيجي، فعلت كل شيئ  يمكن. وكانت العملية ناجحة، ولكن …”. هذا “لكن” جمّد قلبي وتابع Ferrazzi : ” قلب امك ضعيف، وقد خضع لعملية جراحية واحدة وعانى من فشل في وظائف القلب. وخضع لعملية اخرى، جراحة tampon age ؟؟… لا استطيع ان اعدك اي شيئ. نبضها ليس منتظما وانه مع الشرايين الليفية. وهذا طبيعي تماما بعد هذا الاسبوع. ولكن اذا القلب لم ينبض بانتظام خلال 48 ساعة، يجب ان نكون مستعدين للأسوأ! يجب علينا ان نأمل، فأنت في الآخر رجل ايمان…”.   

 باولو ولوكا اتصلا ليقولا لي ان الوضع لم يتحسن.عند الساعة الثانية صباحاً يوم الاحد 31 تموز، كنت في مزاج مضطرب، بالكاد قادراً على اخفاء مشاعري عن الاخرين، كنا مع اصدقائي واقاربي نشعر بتوتر داخلي قوي.   بسبب حرارة شهر آب والقلق الشديد لم استطع النوم في تلك الليلة، كنت اصلي واتنهد بالافكار والمخاوف العميقة.كنت في الفناء حاملاً المفاتيح مستعداً لمغادرة Bergamo. وفجأة توقفت. الطبيب المسؤول قال لي ان من الغباء المغادرة في منتصف الليل… جاء الصباح قضيت كل اليوم اتصرف كالآلة. كنت اشعر باللامبالاة والخنق والمزاجية قي الوقت نفسه. والمكالمات الهاتفية مع الاطباء والممرضات والاصدقاء… والصمت الطويل. مساء الاحد، باولو ولوكا اتصلا ليقولا لي ان الوضع لم يتحسن بعد مرور 24 ساعة… ليلة اخرى بلا نوم، بالقلق كانت تنتظرني: قمت بزيارة الكنيسة، اتصلت بالعناية المركزة عدة مرات… ثم طلع الفجر مجدداً: كان علي الذهاب الى المكتب. ذهبت الى العمل ولكن بالي كان يذهب بعيداً. لقد شعرت بالحاجة للعودة الى برغامو، لكن الاطباء كانوا ينصحونني بالبقاء: ” ابونا جيجي، دعونا ننتظر، واذا تعافت امك ستكون بحاجة اليك”. جاء المساء. كان الجو حاراً جداً في اول آب. المكالمة الثالثة لم تكن مطمئنة. ” ابونا لويجي، Santina لا تزال بالشرايين الليفي”. ولكن ضميري كان يعطي 24 ساعة اخرى، فالساعات الثماني والاربعين الحاسمة قد مرت…

 حياة والدتي في خطر، في العناية المركزة. اطلب من يوحنا بولس الثاني معجزة قد تمنحها الشفاء. كنت في غاية الانفعال والقلق عن الذي سيحدث. هل كانت ستتعافى؟ الليلة الثالثة كانت طويلة! لم استطع ان اصبر. جاء الفجر، ارتديت ملابسي في عجلة ثم مشيت نحو كنيسة مار بطرس … ذهبت الى قبور الباباوات ومشيت حتى وصلت الى قبر يوحنا بولس الثاني. وعيوني تزرف دموعاً، وقعت على ركبتي قائلاً: ” ارجو منك ان تسمعني! لقد امضيت تسعة سنوات من حياتي هنا في خدمتكم. ادعو الله ان يمنح امي تسعة سنوات. كانت صلاة بسيطة ومباشرة، هذا كل ما كان بوسعي ان اقوله. كنت مستاءً وبالكاد استطيع ان اخفي دموعي. بينما كنت اصلي رأيت كاهناً يتجه نحوي، كنت مرتبكاً فنظرت مرة اخرى… كان الاب Stanislaw الامين السابق للبابا Wojtyla. ” ابونا جيجي، ماذا تفعل هنا؟”. ” ابونا Stanislaw ، حياة امي في خطر، طلبت من البابا يوحنا بولس الثاني المعجزة التي قد تمنحها الشفاء”.” ألا تعرف ما تاريخ اليوم؟”.” نعم اعلم. 2 آب 2005!”.” بالتأكيد! ولكن اليوم مرت اربعة اشهر على وفاة يوحنا بولس الثاني، انه ذكراه… انا على وشك الاحتفال بالقداس”. ” هل لي ان اشارك سيدنا؟”.” بالطبع يمكنك!”. وقد ذهبنا الى غرفة المقدسات لكي نستعد. بدأ القداس عند الساعة السابعة والنصف. خلال تناول القربان المقدس، صليت للرب بقوة شديدة: ” يا يسوع، هنا في كنيسة القديس بطرس، امام قبر يوحنا بولس الثاني، بواسطة شفاعته، اطلب منك ان تمنح امي عدد السنوات التي امضيتها كأمين عام لدولة الفاتيكان، في عهد البابا يوحنا بولس الثاني. عندما انتهى القداس، ذهبت الى قبر يوحنا ثانيةً، وصليت بصمت امامه. لقد تأثرت كثيراً. ودعت الاب Stanislaw  ولبست سترتي وبخطوات بطيئة ذهبت الى مكتبي.

  لدي اخبار سارة. منذ صباح هذا اليوم قلب امك بدأت تخفق بصورة منتظمة دون خلل ويدق بإيقاع ؟؟ مرة اخرى.

لقاء الاب Stanislaw ، القداس والصلاة أشعرتني بالسلام والهدوء. خرجت من المصعد في الطابق الثالث، ادرت الكومبيوتر واستعدت للعمل. كان يوم عمل آخر.رن الهاتف، لأول مرة في ذلك اليوم. وبعد اربعة رنات اجبت: ” مرحباً، هل هذا المونسنيور Ginami انا سكرتيرة الدكتور Ferrazzi. انه يريد ان يتحدث معك”. “مرحباً جيجي، انا باولو، هناك اخبار جيدة، فمنذ صباح هذا اليوم قلب امك بدأ يخفق بإنتظام: ليست لديها خلل في خفقان القلب وقلبها يدق بإيقاع تجويف مرة اخرى. ترى، اننا كنا على حق، ان لا نفقد الامل، صلاتك مستجابة! واضاف:” ربما لم يشعر بتأثير ما قاله لي… كنت بالكاد قادر على السيطرة على فرحتي وكتمت في قلبي كل الذي عشت، كل الذي عشت ذلك الصباح على ضريح يوحنا بولس الثاني. ” شكراً، باولو! اشكرك على كل شيئ فعلت من اجل امي… سأراك قريباً في Bergamo “. اقفلت الخط ومسكت رأسي الثقيل بيدي وانفجرت دموع الارتياح. دموع غزيرة تجري على خدودي، ولكن هذه المرة كانت مختلفة عن قبل. بكيت، وقلت شكراً وثم بكيت مرة اخرى. كنت مليئاً بالفرح، وكنت خائفاً من تحديد ما حصل  من معجزة. وعدت نفسي انني لن اخبر اي شخص في الوقت الحاضر. اتصلت بكارولينا. استعدت رباطة جأشي وقلت:” كارولينا، لقد اعطاني الطبيب اخبار جيدة اليوم. قلب امنا بدأ يخفق بإنتظام. امنا ستنجو!”.  عطف يوحنا بولس الثاني كان جيداً بالنسبة الينا: ظله حمانا وشجّعنا.الاشهر التالية لم تكن سهلة. ففي تشرين الاول كانت حياة امي في خطر مجدداً بسبب تعفن الدم… 109 يوماً  في جحيم العناية المركزة. الم بعد الم… العديد من المشاكل الجسدية، والآن امي ليست المرأة التي كانت من قبل، حتى ولو نراها ملاك، وذلك بفضل حسناتها مع معاناتها وابتسامتها. كان اختباراً صعباً بالنسبة الينا جميعاً. ولكن عطف يوحنا بولس الثاني كان خيراً بالنسبة الينا. وكان ظله يحمينا ويشجعنا. ولقد مررنا بهذه التجربة القاسية، ولكن بمساعدة شخص أشعرنا انه بجانبنا في هذا الوقت العصيب.خلال الاشهر التالية، حاولت ان اخبر لبعض الاصدقاء المختارين عن عطف يوحنا بولس الثاني.          ولم ارد ابداً تحديد ما حدث ووصفه بمعجزة. ربما بهذه الطريقة ستزال معلّقة في سرّ الله.جميع الاصدقاء الذين اخبرتهم عبّروا عن دهشتهم! لماذا قررت ان اكتب عنها الان؟ لأن مع الوقت ادركت انني اريد ان ارى التقارير الطبية لأمي في تلك الايام. في عيد الميلاد الماضي، رأيت باولو وطلبت منه هذه التقارير الطبية التي سجلت في الايام الثلاثة الاولى من شهر آب. وهذا ما وجدت:

 سجلات العناية المركزة

الدكتور فرانكو فيري، مسؤول قسم العناية الفائقة في جراحة القلب، دائما يوقّع على نتيجة السجلات اليومية. السطور القصيرة صعبة جداً لأنها تقنية ومتخصصة. فهي تظهر بعد العمليتين كيف كان اهتمام الدكتور Ferrazzi مركّزاً على ايقاع القلب. اخترت استخدام الحروف الكبيرة، لأنها الاهم في سجلات القلب الطبية في تلك الايام.

 

1 آب 2005

التقرير الطبي يصف الوضع كحالة خطرة جداً، ويؤكد التدهور في الوظائف الحيوية. بعد فترة قصيرة، التقرير يؤكد على ان وضع سانتينا يترنح بين الايقاع المجوّف … الحالة سيئة جداً…

2 آب 2005

هذا هو يوم صلاتي امام قبر يوحنا بولس الثاني. اتذكر ان صلواتي المركزة بدأت حينها من الساعة 7.30 صباحاً. التقرير الطبي يظهر بأن الوظائف الحيوية مصابة بخلل كبير، لكن الخطوط القصيرة تشير الى ايجابية ما: قلب يعمل مجدداً بإيقاع مجوف. بالاضافة الى ان عملية ضخ الاكسجين SVO2  جيدة …

3 آب 2005

منذ 2 آب ووضع قلب امي اصبح جيداً ويخفق بإيقاع طبيعي…   

لا اعتقد انه يمكننا ان نحدد ما حصل من معجزة، ولا اريد وصفه كما شرحت في الاعلى. ومع ذلك، أشعر بأنني لا ازال أتساءل عن التحسّن الواضح في حالة قلب Santina في 22 آب 2005، في يوم مرور اربعة اشهر على وفاة يوحنا بولس الثاني. في اليوم الذي احتفلت فيه بالقداس وصليت لخادم الله ليمنح الصحة لأمي. اجاب يوحنا بولس الثاني الى صلاتي وحنّ على قلبSantina  الممزّق… وهذا ما كنا بحاجة اليه.

 

فرح الرب هو قوتنا

رسالة لأمي بمناسبة اول قداس لي – 21 حزيران 1986 – برغامو

 

صباح رأس السنة الباردة في بكين.

السماء غائم في بكين ويبدو انه سوف يثلج بعد لحظات قليلة. امي تحدّق في حشد الدراجات تتحرك على طول الشوارع وتتوقف على اشارات المرور. الدخان الناجم عن الفحم المستعمل للتدفئة في المنازل والابنية يعطي فصل الشتاء مشهداً كئيباً. انه 31 كانون الاول عام 1998. هذا الصباح نريد زيارة احد اقدم المعابد في المدينة الامبراطورية الرائعة بكين، عاصمة مملكة قديمة، مليئة بالتاريخ والحكمة. الجو بارد جداً والصقيع المتجمّد في الينابيع وعند جوانب الشوارع. سنذهب لزيارة معبد الجنّة (Temple of Heaven). ادراج واسعة تؤدي نحو المعبد الصيني النموذجي. فالأمبراطور كان يأتي الى هناك للتأمل. المرشد الصيني يدلنا على تمثال في وسطه حجرة ضخمة ومستديرة. ” من فضلكم فقوا على الحجرة وتمنوا، سوف تتحقق امنيتكم”. مسكت يد امي ووقفنا على الحجرة. انا فضولي جداً ولم استطع ان اضبط نفسي، فسألت امي:” هيا يا امي، اخبريني ماذا تمنيت!”. ظلت امي ساكتة ولكنني اصرّيت: ” من فضلك يا امي. هل تخبرينني عن امنيتك؟”. نظرَت في عينيّ كما تفعل دائماً واجابتني بكل جدية: ” انا لا اؤمن بهذه الامور، وانت تعلم جيداً. ولكن اعتقد انه يمكن ان نطلب من الله شيئ جيد في اي مكان. لذلك ألّفت في صلاتي: ” يا يسوع، ارجو ان يكون الاب جيجي كاهناً صالحاً!! هذا لا يتوقف على حجر تافه. ولكن على الله وعليك! تذكر هذا دائماً: هل فهمت لويجي؟”.

لقد نزلنا من فوق الحجرة، وهذه الجملة ظلت في تفكيري طوال اليوم. عند المساء، كنا في الفندق ونشاهد من الشباك على اكواخ الفقراء وعلى الدخان الكثيف من المداخن، قبلت امي قائلاً: ” شكراً لصلاتك اليوم. اتعهد انني سوف ابذل قصارى جهدي ان اكون كاهناً صالحاً!”. فأجابت عليّ مشيراً الى منازل الفقراء في بكين، ” افعل من اجلهم، من اجل الفقراء. كل عام وانت بخير ابونا جيجي”. وبعد تبادل التمنيات بليلة سعيدة، ذهبنا الى السرير.

 

لا تنفع اي شيئ قبل الرب، حتى والدك وامك.

” بينما كانت المفرقعات تندلع، الاباء والاطفال يسرعون الى الخارج. وفجأة ادركوا مرعبين ان اصغر واحد الذي كان يبلغ من العمر خمسة سنوات كان مفقوداً. ولكن فوقهم نافذة العلية فُتحت، والصبي صرخ من اعلى رئتيه ” ابي، ابي”.

فصرخ الوالد: ” انزل!”. كان الصبي لا يمكن ان يرى الا النار والدخان الاسود تحته، ولكنه حين سمع الصوت اجاب: ” لا استطيع ان اراك يا ابي…”.

” انا استطيع ان اراك وهذا يكفي… اقفز” صاح الرجل.

فقفز الطفل وهبط بسلامة بين ذراعي ابيه، انت لا تستطيع ان ترى الله، ولكن الله يستطيع ان يراك. قام بعمل حاسم! (Bruno Ferrero ، لماذا انت خائف؟ in Is There Anyone Up There? LDC )

الانجيل يطلب منا بشكل جذري ان نخسر الحياة، وان لا نضع شيئاً قبل الرب حتى الاب والام. ويقترح ايمانا جذريا، مثل الايمان الذي وجّه ابراهيم عند استعداده بالتخلي عن ابنه من اجل الرب.  يجب علينا ان نحب الله بلا حدود، كما فعل الرب عندما وهب حياته لنا. وعلينا اختياره ليس لأنه يقدم لنا شيئاً بالمقابل، بل لأنه الرب. فهو فوق الزمان والمكان، فوق كل شيئ. فالتابع الآتي من عند السيد المسيح يجعله حاضراً. ومن الذي يرحب به، يرّحب بيسوع، المسيح والمخلص. اذا كان الانجيل يطالبنا بأن مكان الله قبل اي شيئ آخر، فيجب علينا ان نتبنى سلوك مسيحي يسمح بحدوث هذا الامر. في تجربتي الشخصية،  اخترت ان لا اضع اي شيئ قبل المسيح في يوم 21 حزيران 1986 تحديداً، كان يوم رسامتي الذي اعتبرها الاهم في حياتي. اكثر اهمية من تاريخ ولادتي، والذي انتهى برسامتي ككاهن.  

والدتي هي الانسانة التي اخذتني بيدي الى ذاك اليوم الرائع والمجيد. ادين لها كل ما انا عليه اليوم. مديناً لها لإيمانها بإعتبارها مثلاً ساطعاً، كما كتبت رلى جبرايل في مقدمتها لهذا الكتاب: ” الام الضعيفة التي تذكرنا بأن الله موجود في كل مكان وعنايته لنا في كل لحظة من حياتنا”. حتى مثل هذا الطفل في القصة، لا نستطيع ان نراه.

لقد كتبت هذا الكتيب على شرفها بدءاً من الرسالة التي كتبتها وقرأت امام الجميع في 22 حزيران 1986، بمناسبة اول قداس اقمته. وفي رسالة شكر وبرنامجيّ في الوقت نفسه، والتي لا تزال تعكس روح الكهنوت ومشاعري تجاه امي التي علمتني التسليم والثقة بالله.

على سبيل المثال، يوم الاحد في 15 ايلول 2005، خلال اول حديث روحاني معها بعد عمليتها الجراحية، حينما كانت لا تزال في العناية المركزة، كانت امي مرشدي الروحي مرة اخرى: ” ابونا جيجي، عليّ ان ارتدي ملابسي لكي اذهب الى القداس”.

” ليس من الممكن، امي، لماذا لا نقول صلاة المغرب؟ فأنت تعرفينها غيباً!”.

فوافقت، وبعد الصلاة ارادت ان نصلي من اجل عمي، الاب لويجي ومن اجلي، ثم طلبت مني: ” هل تحبني؟” . فأجبتها بقبلات.

” ابونا جيجي، ابقى مع الله وكن كاهناً صالحاً! “. هذا الكلام الموجز والروحاني اظهرت لي ان امي هي مرشدي الروحي! بالنسبة لها، القربان المقدس هو الحياة.

 

من يفهم كيف اشعر في هذه الايام؟

رسالة الى امي في يوم رسامتي – 21 حزيران 1986، برغامو

 

امي العزيزة،

من يستطيع ان يفهم بماذا اشعر في هذه الايام؟ المشاعر والعواطف يملأن ذهني بالفرح. لا استطيع حتى ان اعبر عما اشعر .. من بين جميع الاعزاء المحيطين بي، انت قريبة لي بشكل خاص. انت قريبة مني بصلاواتك، بدهشتك وفرحتك الكبيرة التي تتجلى في الصمت اعظم من ان يعبر عنها. اليوم كما كتب Pietro Scuri في قصيدته الجميلة ” حلم قد استيقظ”، حلم ونحن نواجه الافراح والاحزان. ولكن من سيوقظ هذا الحلم؟ سوف يوقظ شخصين: كاهن وامه! في هذه الايام لقد تغيرت حياتي تماماً بفضل نعمة الكهنوت. الخبز على المذبح يتحول الى جسد المسيح، على الرغم من حفاظه على مظهره الخارجي. في الامس اصبحت كاهناً ولكن حتى الان استناداً الى المظاهر انا الرجل ذاته مع كل عيوبي ونواقصي.

من الامس فأنتِ لم تعودي ام طالب اللاهوت. فأنت اصبحتِ ام كاهن! في هذه الايام، كان من السهل ان نفكر انه حان الوقت على كل ما فعلت وانني استحق كل ذلك. هذا ليس صحيحاً على الاطلاق. كوني كاهن يتغلب على جميع المصاعب والعمل الشاق الذي قمنا به انا وامي. للرب ندين بكل شيئ. نحن فقط ” خدام  دون فائدة”. لماذا انا اليوم كاهن؟” لأن الله يريد ذلك. هذا كل ما في الامر. اذا انا لا اعرف ” لماذا” انا كاهن اليوم، فأعرف الطريقة التي يستخدمها الله ليجعل مني كاهن. هذه الطريقة هي انتِ يا امي العزيزة. قبل سنوات عديدة فقدت والدي وانت فقدت زوجك ولكنك لم تتزوجي مرة اخرى. الايمان كان دعمك الوحيد وبهذا الايمان العميق والقوي كرّست حياتك لتربيتنا انا وكارولينا مع كل ما نحتاج اليه.

استطيع الآن ان اتعقب منبع دعوتي تجاه ايمانك القوي الذي ولدت من معاناتك. مع فقدان ابي، قلت ان قوتك الوحيدة هي الرب. الرب الذي يتغلب الالم واليأس، والذي قام من بين الموتى بعد ثلاثة ايام طويلة في القبر! ما هو المقصود من كل هذه المعاناة ؟ لماذا يسمح الرب لشابة لديها طفلين صغيرين مواجهة الفقر وحياة صعبة وهي وحيدة. لأن الرب لدبه رؤية واسعة النطاق، وانه كان يعرف بالفعل عن 21 حزيران 1986.

في المنزل كنت دائماً اتنفس ايمانك وصلاتك: قداس، مذبحة وصلاوات هاتفة… هذا الكم الهائل من الايمان. كيف يمكنني نسيان اجمل صورة للايمان في اسرتنا الصغيرة ؟ كيف يمكن ان انسى هذين الطفلين الصغيرين يقولان صلاة المساء في غرفة مضيئة بالضوء الخفيف، راكعين امام صورة العذراء، راكعين مع امهم على السرير الكبير ينامون فيه معها؟  اتذكر الكثير من المشاهد ولكنك تعرفين جميعها، لذلك ليس هناك من داع في اعادة ذكرها.

فاليوم ليس الوقت المناسب للذكريات بل هو الوقت لننظر امامنا!

هل انا كاهن فعلاً ؟ Augusto الذي كان طالباً في روما يدرس اللاهوت، انه مليئ بالفرح ولكن بالحزن العميق ايضاً! حياة ” والدة كاهن” مليئة بالفرح ولكن بالمخاوف ايضاً. ارجو منك ان تساعديني. المعاناة الكثيرة تخيفني في حين انك خبيرة في ذلك. كوني الى جانبي ولا تتعبي ابداً، اعطيني يدك ولا تفكري ابداً انك فعلت ما فيه الكفاية. كوني دائماً الى جانبي بالصبر والتكتم وبصلاواتك، وتذكري دائماً ان فرح الرب قوتنا. 

مع قبلة كبيرة

الاب لويجي        

  

 

 

Servizio fotografico ultimo viaggio a Gerusalemme

scarica il pdf:

 

finalmenteacasa

 

 

 

 

 


Lascia un commento